( [بَابُ عِلْمِ الْحَاكِمِ بِحَالِ مَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ] )
[(مسألة)]
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ مُشْرِكَيْنِ أَوْ غَيْرِ عَدْلَيْنِ مِنْ جَرْحٍ بَيِّنٍ أَوْ أَحَدِهِمَا رَدَّ الْحُكْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ طَلَاقٍ، أَوْ مِلْكٍ، أَوْ مَالٍ، ثُمَّ بَانَ لَهُ بَعْدَ نُفُوذِ حُكْمِهِ بِهِمَا، أَنَّهُمَا عَبْدَانِ أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ كَافِرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَبْدٌ وَالْآخِرُ كَافِرٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِمَا مَرْدُودٌ، لِأَنَّه حَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا فَصَارَ كَحُكْمِهِ بِهَا مَعَ عِلْمِهِ وَجَرَى مَجْرَى مِنْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ بَانَ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ، كَانَ حُكْمُهُ مَرْدُودًا قَبْلَ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْعَبْدِ، فَأَجَازَهَا شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَدَاوُدُ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةَ الْكَافِرِ فِي مَوْضِعٍ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَضَ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمًا نَفَذَ بِالِاجْتِهَادِ.
قِيلَ: قَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا رُدَّتْ بِهِ شَهَادَةُ الْعَبْدِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: بِظَاهِرِ نَصٍّ لَمْ يَدْفَعْهُ دَلِيلٌ، فَصَارَ كَالدَّلِيلِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٣] وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِمَّنْ يُرْضَى.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ فَكَانَ مَرْدُودًا.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا مَرْدُودَةٌ بِقِيَاسٍ عَلَى الشَّوَاهِدِ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ شُذُوذِ الْخِلَافِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَصَارَ مَرْدُودًا بِإِجْمَاعٍ انْعَقَدَ عَلَى قِيَاسٍ جَلِيٍّ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا رُدَّتْ بِاجْتِهَادٍ ظَاهِرِ الشَّوَاهِدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَضَ بِاجْتِهَادٍ خَفِيِّ الشَّوَاهِدِ، لِأَنَّ الْأَقْوَى أَمْضَى مِنَ الْأَضْعَفِ، وَإِنَّمَا يَتَعَارَضَانِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا حَكَمَ بِهَا، لِأَنَّه لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَبْدٌ ثُمَّ عَلِمَ بِعُبُودِيَّتِهِ قَطْعًا فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ عَلَى مَا اشْتَبَهَ وَأَشْكَلَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute