للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهِ فِي الْمَنْعِ، كَالْأُخْتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَكَثْرَةُ الْإِبَاحَةِ تُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهَا فِي الْإِقْدَامِ كَالْأُخْتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ، فَكَذَا الْأَوَانِي إِنْ كَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ غَلَبَ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ أَكْثَرَ غَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ.

وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) {الحشر: ٢) وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَكْثَرَ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَقَلَّ كَالثِّيَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ جَازَ فِيهِ طَلَبُ الطَّاهِرِ مِنَ الثِّيَابِ، جَازَ فِيهِ طَلَبُ الطَّاهِرِ مِنَ الْمَاءِ كَالثَّلَاثِ إِذَا كَانَ أَحَدُهَا نَجِسًا وَكَالْمَيْتَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمُذَكَّى عَكْسًا، وَلِأَنَّ جِهَةَ الْحَظْرِ إِذَا الْتَبَسَتْ بِالْجِهَةِ الْمَطْلُوبَةِ جَازَ التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ غَلَبَةُ جِهَاتِ الْحَظْرِ كَطَلَبِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْجِهَاتِ الأربع، وَالْقِبْلَةَ فِي أَحَدِهَا؛ وَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّهُورِ فَجَازَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي الْأَوَانِي كَالْيَقِينِ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " فَهُوَ أَنَّ مَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى طَهَارَتِهِ قَدْ زَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْهُ، وَالتُّرَابُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ قَدِ انْتَقَلَتِ الرِّيبَةُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى إِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ وَالْآخَرُ بَوْلٌ، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مَعَ الْمُزَنِيِّ مِنَ الْفَرْقَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَاءِ وَالْبَوْلِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ التَّحَرِّي فِيهِ مَعَ غَلَبَةِ الْمُبَاحِ لَمْ يَجُزْ مَعَ غَلَبَةِ الْمَحْظُورِ، وَلَمَّا جَازَ التَّحَرِّي فِي الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ إِذَا غَلَبَ الْمُبَاحُ جَازَ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِأَنَّ الْحَظْرَ إِذَا غَلَبَ كَانَ حُكْمُهُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ أَغْلَبَ أَلَا تَرَى لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ حَرُمْنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِنَّ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ حَلَّ لَهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِنَّ، ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّمَا يَتَغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهِ، وَكَذَا يَتَغَلَّبُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهَا، وَلَيْسَ لِلْعَدَدِ تَأْثِيرٌ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ.

(فَصْلٌ)

: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اجْتِهَادِهِ فِي قَلِيلِ الْأَوَانِي وَكَثِيرِهَا سَوَاءٌ كَانَ الطَّاهِرُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَمَتَى لَمْ يَجِدْ مِنَ الطَّاهِرِ إِلَّا مَا اشْتَبَهَ بِالنَّجِسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وإن وجد ماء طاهراً بيقين ومعه إناآن قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ مِنْهُمَا مِنَ النَّجِسِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُمَا بِاسْتِعْمَالِ مَا يَتَيَقَّنُ طَهَارَتَهُ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى عَيْنِهَا وَلَا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فِيهَا، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ: وَدَلِيلُ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: " وَلَوْ كان في السفر وكان معه

<<  <  ج: ص:  >  >>