للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا عَفَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهَا مِنَ الْإِيلَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ صَحَّ عَفْوُهَا فِي حَقِّهَا، وَهُوَ مَا كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْعَفْوُ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهِ مَأْخُوذٌ بِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهَا وَيَكُونُ كَحَالِفٍ لَيْسَ بِمُولٍ.

إِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ أُلْزِمَ حُكْمَ حِنْثِهِ، فَإِنْ عَادَتْ بَعْدَ الْعَفْوِ مُطَالِبَةً بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ كَانَ ذَلِكَ لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ عَفْوُهَا مُسْقِطًا لِحَقِّهَا عَلَى الْأَبَدِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا أَشَارَ إليه الشافعي رضي لله عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ قُصِدَ بِهَا إِضْرَارُ الزَّوْجَةِ لِيَمْتَنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا بِيَمِينِهِ وَهَذَا الضَّرَرُ يَتَجَدَّدُ مَعَ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا عَفَتْ عَنْهُ كَانَ عَفْوُهَا إِسْقَاطًا لِحَقِّهَا مِنَ الضَّرَرِ الْمَاضِي، فَسَقَطَ، وَلَمْ يَكُنْ عَفْوًا عَنْ حَقِّهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى عَفْوِهَا عَنِ النَّفَقَةِ يُسْقِطُ حَقَّهَا الْمَاضِيَ، وَلَا يُسْقِطُ حَقَّهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَخَالَفَ الْعُنَّةَ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَلَا يَجُوزُ الْعَوْدُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ مُسْتَدِيمٌ يَكُونُ الْعَفْوُ عَنْهُ إِسْقَاطًا، فَجَرَى مَجْرَى سَائِرِ الْعُيُوبِ فِي النِّكَاحِ مِنَ الْجَبِّ وَالْبَرَصِ وَالْجُنُونِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَلَا يَجُوزُ الْعَوْدُ فِيهَا، وَلَيْسَ الْإِيلَاءُ عَيْبًا وَإِنَّمَا هُوَ ضَرَرٌ لَا يَسْتَدِيمُ فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ تَرْكًا، وَلَمْ يَكُنْ إِسْقَاطًا كَالدَّيْنِ إِذَا تَرَكَهُ بِالْإِنْظَارِ جَازَ الْعَوْدُ فِيهِ.

فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْعَفْوُ فِي الْإِيلَاءِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِبْرَاءِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَوْدُ فِيهِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ من الدين إسقاطاً لِلدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزِ الْعَوْدُ فِيهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ، وَلَيْسَ الْعَفْوُ فِي الْإِيلَاءِ إِسْقَاطًا لِلْيَمِينِ، فَجَازَ الْعُودُ فِيهِ بَعْدَ الْعَفْوِ لِثُبُوتِهِ.

(فَصْلٌ:)

وَإِذَا صَحَّ جَوَازُ عَوْدِهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الْعَفْوِ أَجْزَأَ مُدَّةُ الْوَقْفِ الْمَاضِي عَنْ تَجْدِيدِ وَقْفٍ مُسْتَأْنَفٍ فِي الْمُطَالَبَةِ بِخِلَافِ سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ بِالطَّلَاقِ الَّذِي يُسْتَأْنَفُ الْوَقْفُ فِيهِ بِالْعِدَّةِ بَعْدَ الرَّجْعَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا قَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا بِالطَّلَاقِ، فَاسْتُؤْنِفَ لَهُ الْوَقْفُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَلَمْ يُسْتَوْفَ حَقُّهَا بِالْعَفْوِ فَلَمْ يُسْتَأْنَفْ لَهُ الْوَقْفُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْ جَمَعَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْعَفْوِ وَالطَّلَاقِ فِي اسْتِئْنَافِ الْوَقْفِ فِيهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[(مسألة)]

قال الشافعي رضي الله عنه: (وليس ذلك لسيد الأمة ولا لولي معتوهة) .

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِي الْإِيلَاءِ تَخْتَصُّ بِحُقُوقِ الِاسْتِمْتَاعِ وَذَلِكَ مِمَّا تَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجَةُ دُونَ وَلِيِّهَا وَسَيِّدِهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ على شهوتها والتزازها فَإِذَا عَفَتْ عَنْهُ الزَّوْجَةُ صَحَّ عَفْوُهَا وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهَا الْمُطَالَبَةُ فَإِنْ قيل

<<  <  ج: ص:  >  >>