بَالْكَذِبِ، لِأَنَّ الصَّبْغَ تَغْيِيرُ اللَّوْنِ بِغَيْرِهِ. وَيُرِيدُ بِالصَّوَّاغِينَ الَّذِينَ يَصُوغُونَ الْكَلَامَ. وَمِنْهُمُ الشُّعَرَاءُ. لِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّشْبِيبِ.
فَإِنْ كَانُوا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ رُدَّتْ بِهِ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَعْدِ كَذِبٌ. وَإِنْ كَانُوا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي، لَمْ تُرَدَّ بِهِ الشَّهَادَةُ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الِاسْمِ اسْتِعَارَةٌ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّالِثِ، رُدَّتِ الشَّهَادَةُ فِي الصَّبَّاغِينَ وَلَمْ تُرَدَّ فِي الصَّوَّاغِينَ إِذَا سَلِمُوا مِنَ الْكَذِبِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَرْذَلُ مِنَ الصَّنَائِعِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مُسْتَرْذَلًا فِي الدِّينِ كَالْمُبَاشِرِينَ لِلْأَنْجَاسِ مِنَ الْكَنَّاسِينَ وَالزَّبَّالِينَ، وَالْحَجَّامِينَ، أَوِ الْمُشَاهِدِينَ لِلْعَوْرَاتِ كَالْقَيِّمِ وَالْمُزَيِّنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُسْتَرْذَلًا فِي الدُّنْيَا كَالنَّسِيجِ وَالْحِيَاكَةِ، وَمَا يُدَنِّسُ بِرَائِحَتِهِ كَالْقَصَّابِ وَالسَّمَّاكِ. فَإِنْ لَمْ يُحَافِظْ هَؤُلَاءِ عَلَى إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ وَقَصَّرُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، كَانَ ذَلِكَ جُرْحًا فِي عَدَالَتِهِمْ وَقَدْحًا فِي دِيَانَتِهِمْ.
وَإِنْ حَافَظُوا عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الْعَدَالَةِ، فَفِي قَدْحِ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يقدح فيها، لأن الرضا بها مع الاسترزال قَدْحٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْهَا بُدًّا. وَلِأَنَّهَا مُسْتَبَاحَةٌ شَرْعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ مِنْهَا مَا اسْتُرْذِلَ فِي الدِّينِ. وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا مَا اسْتُرْذِلَ فِي الدُّنْيَا، لَا سِيَّمَا الْحِيَاكَةِ لِكَثْرَةِ الْخَيْرِ فِي أَهْلِهَا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ وَأَنَّهَا فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي، وَلُزُومُ الْمُرُوءَةِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ نَعْلَمُهُ إِلَّا أن يكون قليلا بمحض الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ. حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِمَعْصِيَةٍ وَلَا بمحض الْمَعْصِيَةَ وَتَرْكَ الْمُرُوءَةِ حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُرُوءَةِ.
وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ فِي غَرَائِزِ أَنْفُسِهِمْ دَوَاعِيَ الطَّاعَاتِ وَدَوَاعِيَ الْمَعَاصِي فَلَمْ يَتَمَحَّضْ وُجُودُ أَحَدِهِمَا مَعَ اجْتِمَاعِ سَبَبِهِمَا وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
(مَنْ لَكَ بِالْمَحْضِ وَلَيْسَ مَحْضٌ ... يَحِيقُ بَعْضٌ وَيَطِيبُ بَعْضُ)