أَحَدُهُمَا: يَكُونُ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي أَمْثَالِهِمْ، لِمَا يلحقهم من وهن والجاه، وَأَلَمِ الْغَلَبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ إِكْرَاهًا، لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ بِهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ حَالُ الْإِنْسَانِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدنيا وطالبي فيها الرتب، كَانَ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ جَاهِهِ بَيْنَ نُظَرَائِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَذَوِي الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا فِي مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ جَاهِهِ بَيْنَ نُظَرَائِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ إِعْلَاءً لِذِكْرِهِ مَعَ كَثْرَةِ صَوَابِهِ، هَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، جُرِّدَ لِلسِّيَاطِ فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ مِنْ سُقُوطِ يَمِينِ الْمُكْرَهِ، فَكَأَنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حُلِيًّا حُلِّيَ بِهِ فِي النَّاسِ، فَهَذَا حُكْمُ الْإِكْرَاهِ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ وَهُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْإِكْرَاهِ عَنْ نَفْسِهِ إِلَّا بِالْهَرَبِ مِنَ الْمُكْرِهِ لِحَبْسِهِ أَوْ لِإِمْسَاكِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا.
وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ خَوَّفَ الْمُكْرِهَ بِاللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخَفْ لِعُتُوِّهِ وَبَغْيِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ خَوَّفَهُ بِاللَّهِ تَعَالَى خَافَ وَكَفَّ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نَاصِرٌ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَلَا شَفِيعٌ يَكُفُّهُ عَنْهُ، فَإِنْ وَجَدَ نَاصِرًا أَوْ شَفِيعًا فَلَيْسَ بِمَكْرَهٍ، فَإِذَا عُدِمَ الْخَلَاصُ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ تَحَقَّقَ إِكْرَاهُهُ، فَإِذَا تَلَفَّظَ حِينَئِذٍ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَلَا مُرِيدٍ لِإِيقَاعِهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ عَلَى اللَّفْظِ وَعَدَمِ الْإِرَادَةِ فِي الْوُقُوعِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ لَفْظَ الطَّلَاقِ، وَيُرِيدَ إِيقَاعَهُ فَطَلَاقُ هَذَا وَاقِعٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِ الْإِرَادَةِ بِقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ لَفْظَ الثَّلَاثِ وَلَا يُرِيدُ إِيقَاعَهُ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِفَقْدِ الْإِرَادَةِ فِي الْوُقُوعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَقَعُ طَلَاقُهُ لِقَصْدِهِ لَفَظَ الطَّلَاقِ، فَصَارَ فِيهِ كَالْمُخْتَارِ، وَإِذَا تَلَفَّظَ الْمُخْتَارُ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَقَعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشافعي: (خَلَا السَّكْرَانَ مِنْ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا تُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضًا وَلَا طَلَاقًا وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ مُثَابٌ فَكَيْفَ يُقَاسُ مَنْ عَلَيْهِ الْعِقَابُ على من له الثواب وقد قال بعض أهل الحجاز لا يلزمه طلاق فيلزمه