وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْخَاطِئِ لَا يُقْتَلُ قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ الْعَمْدِ الْخَطَأِ قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً " وَهَذَا الْقَتِيلُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ، وَلِأَنَّهَا نفس خرجت بعدم وخطأ، فوجب أن يسقط فيه الْقَوَدُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ الْوَاحِدُ عَمْدًا وَجَرَحَهُ خَطَأً؟ وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي النَّفْسِ مُوجِبٌ وَمُسْقِطٌ يَغْلِبُ حُكْمُ الْمُسْقِطِ عَلَى حُكْمِ الْمُوجَبِ، كَالْحُرِّ إِذَا قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ مَمْلُوكٌ وَنِصْفُهُ حُرٌّ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي الْخَطَأِ يَجْرِي فِي حَقِّ الْقَاتِلِ مَجْرَى عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ، وَسُقُوطُهُ عَنِ الْأَبِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَفْوِ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ، وَعَفْوُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ فِي حَقِّ مَنْ بَقِيَ مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِ الْقَتَلَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ عَمَّنْ بَقِيَ مِنَ القَتَلَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ عَنْ جَمِيعِهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ:
وَقَوْلُهُ: " لَوْ تَعَدَّى الْخَطَأ إِلَى الْعَمْدِ لَتَعَدَّى الْعَمْد إِلَى الْخَطَأِ " فَهُوَ خَطَأٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ اجْتِمَاعَ الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ يَقْتَضِي تَغْلِيبَ حُكْمِ الْإِسْقَاطِ عَلَى الْإِيجَابِ.
وَقَوْلُهُ: " لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الدِّيَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْقَوَدِ " لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَتَبَعَّضُ وَالْقَوَدُ لَا يَتَبَعَّضُ.
فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنِ الْعَامِدِ لِسُقُوطِهِ عَنِ الْخَاطِئِ فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً حَالَّةً فِي مَالِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْخَاطِئِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُخَفَّفَةً إِلَى أَجَلِهَا.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْأَبِ لَا يُقْتَلُ بِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ كَشَرِيكِ الْخَاطِئِ، وَلِأَنَّ مُشَارَكَةَ الْأَبِ كَمُشَارَكَةِ الْمَقْتُولِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْتُولَ لَوْ شَارَكَ قَاتِلَهُ لَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ، كَذَلِكَ الْأَبُ إِذَا شَارَكَ الْأَجْنَبِيَّ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْقَوَدُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الْأَبِ يُقْتَلُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: ٣٣] وَلِأَنَّهَا نَفْسٌ مَضْمُونَةٌ خَرَجَتْ بِعَمْدٍ مَحْضٍ، فَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنِ الْآخَرِ، كَالْعَفْوِ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَوَدِ عَنْهُمَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْأَبِ بِمُشَارَكَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْأَجْنَبِيِّ بِمُشَارَكَةِ الْأَبِ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْخَاطِئِ فَهُوَ أَنَّ سُقُوطَهُ عَنِ الْخَاطِئِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَقَدِ امْتَزَجَ الْفِعْلَانِ فِي السِّرَايَةِ فَلَمْ يَتَمَيَّزَا، وَسُقُوطُهُ عَنِ الْأَبِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَقَدْ تَمَيَّزَ الْقَاتِلَانِ فَلَمْ يَسْتَوِيَا، وَجَمْعُهُ بَيْنَ شَرِكَةِ الْأَبِ وَشَرِكَةِ الْمَقْتُولِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَرِيكَ الْمَقْتُولِ يُقْتَلُ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute