أَحَدُهُمَا: النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ بِهِمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [آل عمران: ١٣٥، ١٣٦] قوله {فاستغفروا لذنوبهم} يُرِيدُ بِهِ النَّدَمَ، لِأَنَّ ظُهُورَهُ يَكُونُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يعلمون} هُوَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ بَعْدِ وَقَبْلَ تَوْبَتِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَرْكُ الْإِصْرَارِ، لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ النَّدَمُ عَلَيْهِ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الذَّنْبُ بَاطِنًا أَقْنَعَ فِيهِ التَّوْبَةُ الْبَاطِنَةُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا أَقْنَعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْبَةُ الْبَاطِنَةُ، وَلَمْ يُقْنِعْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ إِلَّا التَّوْبَةُ الظَّاهِرَةُ، فَإِنْ تَجَاوَزَ مَأْثَمُ هَذَا الذَّنْبِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَنْ أَثِمَ بِهِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ غُرِّمَ وَلَا حَدَّ، كَمَنْ تَعَدَّى بِضَرْبِ إِنْسَانٍ فَآلَمَهُ احْتَاجَ مَعَ التَّوْبَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَالْعَزْمِ إِلَى اسْتِحْلَالِ الْمَضْرُوبِ بِاسْتِطَابَةِ نَفْسِهِ لِيَزُولَ عَنْهُ الْإِثْمُ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ أَحَلَّهُ مِنْهُ عَفْوًا وَإِلَّا مَكَّنَهُ مِنْ نَفْسِهِ لِيُقَاتِلَهُ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ قِصَاصٌ وَلَا غُرْمٌ، لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ فِي الْقِصَاصِ المماثلة، وهي هاهنا مُتَعَذِّرَةٌ، وَيُعْتَبَرُ فِي التَّوْبَةِ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ، وَهِيَ هاهنا مَوْجُودَةٌ وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى الرِّجَالَ أَنْ يَطُوفُوا مَعَ النِّسَاءِ فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي مَعَ النِّسَاءِ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتُ أَحْسَنْتُ لَقَدْ ظَلَمْتَنِي، وَإِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ فَمَا أَعْلَمْتَنِي، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا شَهِدْتَ عَزْمَتِي؟ قَالَ: مَا شَهِدْتُ لَكَ عَزْمَةً، فَأَلْقَى إِلَيْهِ الدِّرَّةَ، وَقَالَ: اقْتَصَّ قَالَ: لَا أَقْتَصُّ الْيَوْمَ، قَالَ: فَاعْفُ قَالَ: لَا أَعْفُو فَافْتَرَقَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ لَقِيَهُ مِنَ الْغَدِ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَى مَا كَانَ مِنِّي قَدْ أَسْرَعَ فِيكَ، قَالَ: أَجَلْ قَالَ: فَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ.
فَبَذَلَ لَهُ الْقِصَاصَ مِنَ الضَّرْبِ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ لِيَزُولَ عَنْهُ مَأْثَمُ الْخَطَأِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي حَقِّ اللَّهِ عَفْوًا، فَإِنْ قَادَ نَفْسَهُ فَلَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّ عَلَيْهِ الِانْقِيَادَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءُ.
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ مَعْصِيَةً يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ الْإِثْمِ حَقٌّ، فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ فِعْلٍ وَقَوْلٍ، فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ الْحَقُّ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُخْتَصًّا بِالْآدَمِيِّينَ كَالْغُصُوبِ وَالْقَتْلِ، فَصِحَّةُ تَوْبَتِهِ مِنْهُ مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: بِالنَّدَمِ عَلَى فِعْلِهِ.
وَالثَّانِي: بِالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute