وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ عَلَيْهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ فِدْيَةً وَاحِدَةً، فَعَلَى هَذَا. لَا يخلوا حَالُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ أَسْبَابُهَا، أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَسْبَابُهَا كَأَنْ لَبِسَ هَذِهِ اللُّبْسَاتِ كُلَّهَا لِأَجْلِ الْبَرْدِ، أَوْ لِأَجْلِ الْحَرِّ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهَا، فَلَبِسَ قَمِيصًا لِأَجْلِ الْحَرِّ وَعِمَامَةً، لِجِرَاحَةٍ بِرَأْسِهِ، وَخُفَّيْنِ لِأَجْلِ الْحَفَاءِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِهَا كَالْأَسْبَابِ الْمُتَّفِقَةِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ كَاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[مسألة]
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُحْرِمُ فَمَمْنُوعٌ مِنْ حلق رأسه لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة: ١٩٦) . فَإِنْ قِيلَ: لما مَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ؟
قِيلَ لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا، وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهَا، ويجوز أن يكون ليتذكر بِطُولِ شَعْرِهِ، وَشَعَثِ بَدَنِهِ، مَا هُوَ عَلَيْهِ من إحرامه، فيمنع من الوطئ وَدَوَاعِيهِ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ حَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِشَعْرِهِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ عِنْدَ إِحْرَامِهِ أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي، وَبَشَرِي، وَلَحْمِي، وَعَظْمِي، وَدَمِي.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْأَوْلَى لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ أَوْ يُلَبِّدَهُ وَلَا يَمَسَّهُ.
قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُلَبِّدَهُ وَلَا يَمَسَّهُ وَيَعْقِصَهُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجِّهِ، وَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، وَلَمْ يُلَبِّدْ، كَانَ لَهُ إِذَا حَلَّ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَإِنْ لَبَّدَهُ وَعَقَصَهُ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ، وَلَا يُقَصِّرَ، وَذَلِكَ فَائِدَةُ التَّلْبِيدِ، وَالْإِطَالَةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّهُ إِنْ شَاءَ حَلَقَ، وَإِنْ شَاءَ قَصَّرَ، لعموم قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِرِينَ) {الفتح: ٢٧) .
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ حَلْقُ رَأْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ حَلْقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ أَرَادَ حَلْقَهُ لِعُذْرٍ، لَمْ يَأْثَمْ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) {البقرة: ١٩٦) وَأَمَّا الْأَذَى، فَهُوَ الْقَمْلُ، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: