وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُحَارِبَ مُجَاهِرٌ فَقَوِيَتْ تَوْبَتُهُ، وَغَيْرُ المحارب مساير فَضَعُفَتْ تَوْبَتُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقِيَّةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ تَوْبَةِ الْمُحَارِبِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ فَزَالَتِ التُّهْمَةُ عنه إن تظاهر بها بخوف وحذر والتقية متوجه إِلَى غَيْرِ الْمُحَارِبِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْقُدْرَةِ فَلَحِقَتْهُ التهمة في الظاهر بِهَا مِنْ خَوْفٍ وَحَذَرٍ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا مِنْ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ مَا تَزُولُ بِهِ التُّهْمَةُ.
[(فصل)]
فإذا تقرر ما ذكرنا من فرق ما بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَغَيْرِ الْحِرَابَةِ فِي شُرُوطِ التَّوْبَةِ وسقوط الحدود بها في الحالين وجب تفصيلها وشرح الحكم فيها.
فَنَقُولُ: أَمَّا التَّوْبَةُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَلَا تَأْثِيرَ لها فيها فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ وَلَا حَقٍّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا مَشْرُوطَةً بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَهْلِهَا بقوله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: ٣٤] فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ وَعَدَمِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي سُقُوطِ حُدُودِ الْحِرَابَةِ، وَفِي إِسْقَاطِهَا لِحُدُودِ غَيْرِ الْحِرَابَةِ قَوْلَانِ، فَأَمَّا حُدُودُ الْحِرَابَةِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا اخْتَصَّ بِالْحِرَابَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: انْحِتَامُ الْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ، وَقَطْعُ الرِّجْلِ، فَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ انْحِتَامُ قَتْلِهِ وَيَصِيرُ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ، وَيَسْقُطُ صَلْبُهُ وَقَطْعُ رِجْلِهِ فِي أَخْذِ الْمَالِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَخْتَصُّ بِالْحِرَابَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا سَوَاءً وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا، وشرب الخمر، وقطع السرقة، ففي سقوطه بِالتَّوْبَةِ فِي الْحَالَيْنِ قَوْلَانِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اختلف فيه وهو قطع اليد وأخذ الْمَالِ فِي الْحِرَابَةِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْحِرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي غَيْرِهَا.
فعلى هذا يعتبر فِيهَا التَّوْبَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ، وَفِي سُقُوطِهِ بِهَا قَوْلَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ قَطْعَهَا مُخْتَصٌّ بِحُدُودِ الْحِرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا لِلْمُجَاهَرَةِ بِأَخْذِ الْمَالِ وتقطع في غير المحاربة للإسرار بأخذ المال فاختلف موجبهما، فعلى هذا يعتبر فِيهَا تَوْبَةُ الْحِرَابَةِ وَيَسْقُطُ قَطْعُهَا قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا يَسْقُطُ بِهَا قَطْعُ الرِّجْلِ، فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَلَا يسقط بِالتَّوْبَةِ فِي الْحَالَيْنِ، وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَأَسْقَطَ بِهَا حَدَّ الْقَذْفِ، لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى بَدَلٍ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَتَنَوَّعُ وَجَمِيعُهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ مُتَمَاثِلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.