أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَا مَا يَقْطَعُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا مَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِهِمَا عَنِ الْمَجْلِسِ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَمَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ حَدَثَ تَشَاغُلٌ بِغَيْرِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِعَالٍ لَمْ تُطَلَّقْ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ خِيَارُهَا مُمْتَدًّا فِي جَمِيعِ الْمَجْلِسِ أَوْ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا، وَفِي (الْإِمْلَاءِ) أَنَّهُ مُمْتَدٌّ فِي جَمِيعِ الْمَجْلِسِ، فَمَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا فِيهِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ تَرَاخَى الزَّمَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْمَجْلِسِ، لِأَنَّهُ قَبُولُ تَمْلِيكٍ، فَأَشْبَهَ الْقَبُولَ فِي تمليك البيع والهبة، وإطلاق الشافعي من مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، لِأَنَّ أُصُولَهُ مُقَرَّرَةٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ، أَنَّهَا إِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، كَانَ إِجْمَاعًا وَلَا يَكُونُ إِلَّا أَنْ يَتَعَجَّلَ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ: لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ إِلَى شَهْرٍ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: مَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ وَطْئِهَا، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْدُودٌ وَمَدْفُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ.
(فَصْلٌ:)
وَإِذَا مَلَّكَهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا، ثُمَّ رَجَعَ فِي التَّمْلِيكِ، قَبْلَ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا صَحَّ رُجُوعُهُ وَبَطَلَ تَمْلِيكُهُ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَمْ تُطَلَّقْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ طُلِّقَتْ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ، فَلَمْ يَمْلِكِ الزَّوْجُ الرُّجُوعَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَتُطَلَّقُ مَتَى دَخَلَتِ الدَّارَ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ لِوُقُوفِهِ عَلَى قَبُولِهَا، وَلِلْمَالِكِ وبعد بَذْلِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ قَبْلَ قَبُولِهِ مِنْهُ، كَمَا يَرْجِعُ فِي بَذْلِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، قَبْلَ قَبُولِهِمَا مِنْهُ، وَخَالَفَ تَعْلِيقَ طَلَاقِهَا بِدُخُولِ الدَّارِ، لِأَنَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِهَا، وَلَيْسَ لَهَا إِبْطَالُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ كَالتَّمْلِيكِ الَّذِي لَهَا أَنْ تُبْطِلَهُ عَلَى نَفْسِهَا، فَكَانَ لَهُ إِبْطَالُهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا صَحَّ رُجُوعُهُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَمَتَى طلقت نفسها بعد عِلْمِهَا بِرُجُوعِهِ، كَانَ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا وَجْهَانِ، مِنَ الْوَكِيلِ فِي الْقِصَاصِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالرُّجُوعِ حَتَّى اقْتَصَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ المزني: (وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ: وَإِنْ مَلَّكَ أَمْرَهَا غَيْرَهَا فَهَذِهِ وَكَالَةٌ مَتَى أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَمَتَى شَاءَ الزَّوْجُ رَجَعَ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute