وَجَوَّزَ آخَرُونَ مِنْهُمْ تَقْلِيدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي ".
وَجَوَّزَ آخَرُونَ تَقْلِيدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَاصَّةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ".
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ التَّقْلِيدِ، وَوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى أَدِلَّةِ الْأُصُولِ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: ١٠] وقَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: ٨٣] فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُسْتَنْبِطِ عِلْمٌ.
وَرُوِي أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ أَوْ وَثَنٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ". فَقَالَ عَدِيٌّ: مَا اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا فَقَالَ: " أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا حَلَّ وَيُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حُرِّمَ؟ " قَالَ: نَعَمْ قَالَ: " فَتِلْكَ الْعِبَادَةُ ".
وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُقَلِّدِ مِنْ أَنْ يُقَلِّدَ جَمِيعَ النَّاسِ أَوْ بَعْضَهُمْ فَإِنْ قَلَّدَ جَمِيعَ النَّاسِ لَمْ يُمْكِنْهُ لِاخْتِلَافِهِمْ، وَإِنْ قَلَّدَ بَعْضَهُمْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ بِأَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ فَإِنْ رَجَّحَ صَارَ مُسْتَدِلًّا.
ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ قَلَّدَ: صِرْتَ إِلَى التَّقْلِيدِ بِدَلِيلٍ أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ؟ فَإِنْ قَالَ بِدَلِيلٍ نَاقَضَ قَوْلَهُ صَارَ مُسْتَدِلًّا وَغَيْرَ مُقَلِّدٍ.
وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ قِيلَ: فَهَلَّا قَلَّدْتَ مَنْ قَالَ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ فَلَا يَجِدُ مِنْهُ انْفِصَالًا إِلَّا بِدَلِيلٍ فَبَطَلَ التَّقْلِيدُ بِالدَّلِيلِ.
وَفِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالِاقْتِدَاءِ بِأَصْحَابِهِ مَا يُوجِبُ تَرْكَ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْجِدِّ وَالْعَوْلِ وَغَيْرِهِ اسْتَدَلُّوا وَلَمْ يُقَلِّدْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
(فَصْلٌ: [الْقَوْلُ فِي وجوب النظر في أصول الشرع] )
فَإِذَا تَقَرَّرَ فَسَادُ التَّقْلِيدِ وَجَبَ النَّظَرُ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ لِيَصِلَ إِلَى الْعِلْمِ بِمُوجَبِهَا. وَأَبْطَلَ قَوْمٌ وُجُوبَ النَّظَرِ وَعَوَّلُوا عَلَى الْإِلْهَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: ٤٦] فَحَمَلُوهُ عَلَى إِلْهَامِ الْقُلُوبِ دُونَ اعْتِبَارِهَا.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ وَقَوْلٌ مُطَّرِحٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي