للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ الْمُنْفَصِلِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ؟ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، وَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ زَمَانٍ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، عَتَقَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ شَرْطًا، وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ وَقْتٍ: إِلَّا خَمْسَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً وَلَزِمَتْهُ الْعَشَرَةُ، لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ طَوِيلِ الزَّمَانِ لَسَقَطَتْ كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ بِاسْتِثْنَائِهِ قَبْلَ الْحِنْثِ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ) {الكهف: ٢٤) فَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا غَضِبْتَ لِيَزُولَ عَنْكَ الْغَضَبُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ ذَكَرَ السَّاجِيُّ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو صح جاز أن يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى سُكُوتِهِ لِانْقِطَاعِ النَّفَسِ، أَوْ قَالَهُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ اسْتِعَانَةً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ اسْتِثْنَاءً فِي يَمِينِهِ؟ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّى بِهَا فِي غَزْوِ قُرَيْشٍ.

(فَصْلٌ:)

فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالِاتِّصَالِ دُونَ الِانْفِصَالِ. فَالْمُتَّصِلُ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَصِلَهُ بِيَمِينِهِ عَلَى نَسَقٍ، فَإِنْ سَكَتَ لِنَحْنَحَةٍ وَانْقِطَاعِ نَفَسٍ أَوْ عَجْزٍ أَوْ تَذَكُّرِ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ قَطْعًا، وَكَانَ كَالْمُتَّصِلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لا يمتد، ولا بد أن يتخلله سكتات الِاسْتِرَاحَةِ، فَأَمَّا إِنْ سَكَتَ بِغَيْرِ هَذَا، أَوْ تَكَلَّمَ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَكَلَامٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بَطَلَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْيَمِينِ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا.

(فَصْلٌ:)

ثُمَّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا مَعَ الِاتِّصَالِ إِلَّا بِالْكَلَامِ، فَإِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا يَنْعَقِدْ بِالنِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا بِالنِّيَّةِ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ نُطْقًا كَمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ نُطْقًا.

فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَنَوَى بِقَلْبِهِ إِنْ دَخَلَ الدَّارَ كَانَ شَرْطًا فِي عِتْقِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وبين الله تعالى، وكلا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدُخُولِ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ نُطْقًا فَهَذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ هَكَذَا.

قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ كَالنَّسْخِ، وَلَا يَكُونُ النَّسْخُ إِلَّا بِالْكَلَامِ كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ تَخْصِيصُ بَعْضِهِ وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ.

وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُبْطِلٌ لِظَاهِرِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَبْطُلْ إِلَّا بِمِثْلِهِ مِنْ كَلَامٍ ظَاهِرٍ، وَالشَّرْطُ مُثْبَتٌ فَحَمْلُ الْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الكلام فافترقا.

<<  <  ج: ص:  >  >>