وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: ١٧٨] فَلَمَّا لَمْ يَتَكَافَأِ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ لَمْ يَتَكَافَأِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَلِأَنَّ تَفَاضُلَ الدِّيَاتِ تَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ كَمَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَ الْقِيَمِ فِي الْمُتْلَفَاتِ مِنَ التَّسَاوِي فِي الْغُرْمِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أن النفس بالنفس} [المائدة: ٤٥] فَعَمَّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فِيهِ الْفَرَائِضُ، وَالسُّنَنُ وَأَنْفَذَهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ فِيهِ " يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى " وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ يَهُودِيًّا مَرَّ بِجَارِيَةٍ عَلَيْهَا حُلِيٌّ لَهَا، فَأَخَذَ حُلِيَّهَا، وَأَلْقَاهَا فِي بِئْرٍ فَأُخْرِجَتْ وَبِهَا رَمَقٌ، فَقِيلَ: مَنْ قَتَلَكِ؟ قَالَتْ: فُلَانٌ الْيَهُودِيُّ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.
وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ تَعَلَّقَ بِحُرْمَةٍ كَالْحُدُودِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَضَرْبٌ تَعَلَّقَ بِالْمَالِ كَالْمِيرَاثِ؛ فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْقَوَدُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحُرْمَةِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ.
وَالدِّيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ.
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إِنْ وَجَبَ فَبَذْلُ الْمَالِ مَعَهُ لَا يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ فَبَذْلُ الْمَالِ لَا يَجِبُ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالأُنْثَى بالأنثى} فَلَيْسَ يَمْنَعُ قَتْلُ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى مِنْ قَتْلِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِعَيْنٍ لَا يَقْتَضِي نَفْيَهُ عَمَّا عَدَاهَا.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الدِّيَاتِ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ كَتَفَاضُلِ الدِّيَاتِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْقِصَاصِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا التَّكَافُؤُ بِالْأَنْسَابِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقْتَلُ الشَّرِيفُ بِالدَّنِيءِ، وَالدَّنِيءُ بِالشَّرِيفِ، وَالْعَرَبِيُّ بِالْعَجَمِيِّ، وَالْعَجَمِيُّ بِالْعَرَبِيِّ.
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ائْتُونِي بِأَعْمَالِكُمْ وَلَا تَأْتُونِي بِأَنْسَابِكُمْ ".