بالشهادة ولم يسقط بالرجوع؛ لأن وجوبه ما سبقها فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا تُعْقِبُهُ، وَعَلَى الْوُجُوهِ كلها لا يسقط أحدهما الآخر.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَذَّبَ الشُّهُودَ حُدَّ بشهادتهم وإن صدقهم سقط عنه الحد فلم يحد بشهادتهم ولا بإقراره قال: لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مُقِرٍّ فَسَقَطَتْ، وَالْإِقْرَارُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ حَتَّى يَتَكَرَّرَ أَرْبَعًا.
وَهَذَا مِمَّا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى مُنْكَرٍ وَيَسْقُطَ عَنْ مُقِرٍّ، وَإِنْ بَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ أَصْلِهِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةُ فَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ، فَإِذَا وَجَبَ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فَيَسْقُطَ بِالتَّصْدِيقِ دُونَ الرُّجُوعِ.
وَأَمَّا الْحُقُوقُ المشتركة التي يتعلق بها حق الله وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ السَّرِقَةُ يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ، وهو من حقوق الله الْمَحْضَةِ، وَغُرْمُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الآدميين المحضة، فإذا أوجب بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَسْقُطِ الْغُرْمُ بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَفِي سُقُوطِ الْقَطْعِ بِالرُّجُوعِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ لِاخْتِصَاصِهِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ لِاقْتِرَانِهِ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّجُوعُ.
(فَصْلٌ)
[الْأَلْفَاظُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي رُجُوعِ المقر على نفسه بالزنا]
فأما ما يكون به راجعاً في إِقْرَارِهِ فَهُوَ الْقَوْلُ، وَذَلِكَ بِإِحْدَى ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ، إِمَّا أَنْ يَقُولَ كَذَبْتُ فِي إِقْرَارِي، أَوْ يَقُولُ: لَمْ أَزْنِ، أَوْ يَقُولُ: قَدْ رَجَعْتُ عن إقراري، فكل واحد من هذه الألفاظ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ رُجُوعًا صَرِيحًا، فَإِنْ قَالَ: لَا تحدوني لم يكن رجوعاً صريحاً؛ لأنه يجوز أن يريد به العفو أو الإنظار، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا الْإِنْظَارُ لَهُ إلا لعذر ينظر لأجله من مرض، أو جنة أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ فَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الكف عنه، فإذا بين عَنْ مُرَادِهِ عُمِلَ عَلَيْهِ وَحُكِمَ بِمُوجِبِهِ.
وَلَوْ قَالَ: لَا حَدَّ عَلَيَّ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى صَرِيحِ الرُّجُوعِ مَعَ احْتِمَالٍ فِيهِ فَيُسْأَلُ عَنْهُ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالرُّجُوعِ وَلَكِنَّ هَرَبَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقُومُ هَرَبُهُ مَقَامَ رُجُوعِهِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَكُونُ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي مَاعِزٍ حِينَ هَرَبَ مِنَ الْأَحْجَارِ " هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) .