(فَصْلٌ:)
وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: " وَإِنْ سَبَقَهُ، وَلَمْ يُسَمِّ الْغَرَضَ كَرِهْتُهُ "، هَلْ أَرَادَ بِهِ غَرَضَ الْهَدَفِ أَوْ غَرَضَ الْمَوْقِفِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ أَرَادَ غَرَضَ الْمَوْقِفِ أَنْ تَكُونَ مَسَافَتُهُ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ أَغْفَلَا ذِكْرَهَا، وَعُرْفُ الرُّمَاةِ فِيهِ مُخْتَلِفٌ بَطَلَ الْعَقْدُ لِلْجَهْلِ بِمَا هُوَ مَقْصُودٌ فِيهِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " كَرِهْتُهُ " أَيْ حَرَّمْتُهُ، كَمَا قَالَ: " وَأَكْرَهُ أَنْ يُدْهَنَ مِنْ عَظْمِ فِيلٍ " أَيْ أُحَرِّمُهُ، وَإِنْ كَانَ لِلرُّمَاةِ فِيهِ عرفٌ مَعْهُودٌ، فَفِي حَمْلِهِمَا عَلَيْهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُحْمَلَانِ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ يَقُومُ فِي الْعُقُودِ مَقَامَ الشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " كَرَاهَةً " يُرِيدُ: كَرَاهَةَ اخْتِيَارٍ لَا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ مَعَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لِأَعْيَانِ الْمُتَنَاضِلَيْنِ أَغْرَاضٌ فِي مُخَالَفَةِ الْعُرْفِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُمَا لَا يُحْمَلَانِ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ، لِهَذَا التَّعْلِيلِ مِنَ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فِيهِ وَأَنَّ الْقَوِيَّ فِي الْبُعْدِ أَرْغَبُ، وَالضَّعِيفَ فِي الْقُرْبِ أَرْغَبُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: " كَرِهْتُهُ " أَيْ: حَرَّمْتُهُ، وَإِذَا تَقَدَّرَتْ مَسَافَةُ الْغَرَضِ إِمَّا بِالشَّرْطِ وَإِمَّا بِالْعُرْفِ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَاضِلَيْنِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ، وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ لِأَنَّ الْجَوَابَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِهِ كَالْإِجَارَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " فَإِنْ سَمَّيَاهُ كَرِهْتُ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يَخَفِضَهُ " أَيْ: مَنَعْتُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ارْتِفَاعٌ، وَالنُّقْصَانَ انْخِفَاضٌ، فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِالْمَسْأَلَةِ وَجَوَابُهَا عَلَى هَذَا الْمُرَادِ فِي أَحْكَامِهَا مَعَ الذِّكْرِ وَالْإِغْفَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا غَرَضُ الْهَدَفِ فِي ارْتِفَاعِهِ وَانْخِفَاضِهِ، وَتَوَسُّطِهِ، فَإِنْ سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ حُمِلَا عَلَى مَا سَمَّيَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْفَعَهُ إِنْ كَانَ مُنْخَفِضًا وَلَا أَنْ يَخْفِضَهُ إِذَا كَانَ مُرْتَفِعًا الْتِزَامًا بِحُكْمِ الشَّرْطِ.
وَإِنْ أَغْفَلَاهُ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ بِإِغْفَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ مَقْصُودِهِ، وَقِيلَ لَهُمَا: إِنِ اتَّفَقْتُمَا عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَقْدِ حُمِلْتُمَا فِيهِ عَلَى اتِّفَاقِكُمَا، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْكُمَا بَعْدَ الِاتِّفَاقِ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يَخْفِضَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفْتُمَا فِيهِ حُمِلْتُمَا عَلَى العرف، ويكون الاتفاق هاهنا مُقَدَّمًا عَلَى الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْغَرَضِ أَمْكَنُ لِلطَّوِيلِ، وَالرَّاكِبِ، وَانْخِفَاضَهُ أَمْكَنُ لِلْقَصِيرِ وَالنَّازِلِ.
وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ عِنْدَ تَقَدُّرِ الِاتِّفَاقِ، مُخْتَلِفًا رُوعِيَ فِيهِ أَوْسَطُ الْأَغْرَاضِ الْمُسَمَّى:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute