لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا لَمْ يُعْفَ عَنْهَا كَالْجَهَالَةِ بِتَوَابِعِ الْمَبِيعِ كَالْأَسَاسِ وَأَطْرَافِ الْأَجْدَاعِ وَطَمْيِ البئر فلما أمكن الاحتراز من الجهال في الإبراء وجب أن تكون الجهال مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِشَرْطٍ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ قَبْلَ وُجُوبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّفِيعَ لَوْ عَفَا قَبْلَ الشِّرَاءِ لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا كَذَلِكَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ.
وَإِذَا قِيلَ بِالثَّالِثِ إِنَّهُ يَبْرَأُ فِي الْحَيَوَانِ مِمَّا لَمْ نَعْلَمْهُ دُونَ مَا عَلِمَهُ وَلَا يَبْرَأُ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ مِمَّا عَلِمَهُ وَمِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ. فَوَجْهُهُ قَضَاءُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ابْتَاعَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَبْدًا بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ فَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَقْبَلْهُ فَتَحَاكَمَا فِيهِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لِابْنِ عُمَرَ: أَتَحْلِفُ أَنَّكَ لَمْ تَعْلَمْ بِهَذَا الْعَيْبِ فَاتَّقَى الْيَمِينَ وَاسْتَرَدَّ الْعَبْدَ فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: تَرَكْتُ الْيَمِينَ لِلَّهِ فَعَوَّضَنِي فَقَدْ قَضَى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْفَرْقِ فِي عُيُوبِ الْحَيَوَانِ بَيْنَ مَا عَلِمَهُ وَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَحَكَمَ بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّ زَيْدًا رَضِيَ بِقَضَائِهِ وَابْنَ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ بِخِلَافِهِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهِ لِأَنَّ الْعَيْبَ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ هَذَا إِجْمَاعًا فَهَلَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يَجْعَلْهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ قِيلَ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ عُثْمَانَ دُونَ زَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَإِنَّمَا كَانَ إِمْسَاكُهُمَا اتِّبَاعًا لِعُثْمَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَا قَلَّدَ عُثْمَانَ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَالتَّقْلِيدُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، قِيلَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حُجَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ التَّقْلِيدُ عِنْدَهُ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَلِأَنَّهُ كَانَ يَرَى قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ إِذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ حُجَّةً يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ إِمَامًا وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَلِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إِذَا انْضَمَّ إِلَى قَوْلِ صَحَابِيٍّ كَانَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى قَضَاءِ عُثْمَانَ قِيَاسُ تَقْرِيبٍ فَصَارَ حُجَّةً يُقَدَّمُ عَلَى قِيَاسِ التَّحْقِيقِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ: فِي أَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ يَغْتَذِي بِالصِّحَّةِ وَالسُّقْمِ وَتَحَوُّلِ طَبَائِعِهِ وَقَلَّمَا يَخْلُو مِنْ عَيْبٍ وَإِنْ خَفِيَ فَلَمْ يَكُنِ الِاحْتِرَازُ مِنْ عُيُوبِهِ الْخَفِيَّةِ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْلُو مِنَ الْعُيُوبِ وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا لِظُهُورِهَا فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَضِيَّةِ عُثْمَانَ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهَا فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ الْعُيُوبِ فَإِنَّمَا يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ سَوَاءٌ كان
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute