قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحِلَاقَ إِتْلَافٌ، يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي فِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَالطِّيبُ، اسْتِمْتَاعٌ، يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي فِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ وَتَطَيَّبَ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا، فِيهِمَا جَمِيعًا، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لَا يَتَدَخَّلَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا، فِيهِمَا جَمِيعًا، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْحَلْقِ، دُونَ التَّطَيُّبِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي الطِّيبِ، نَاسِيًا فِي الْحَلْقِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتَانِ؛ لِأَنَّ عَمْدَهُ فِي الطِّيبِ، يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَنِسْيَانُهُ فِي الْحَلْقِ لَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي الْحَلْقِ، نَاسِيًا فِي الطِّيبِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ واحدة؛ لأن نسيانه في الطيب يسقط للفدية.
[مسألة]
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ فَمُدَّانِ وَإِنْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَدَمٌ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَفِي كُلِّ شعرةٍ مُدٌّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ إِجْمَاعًا. فَإِنْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الدَّمَ يَجِبُ فِي حَلْقِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وبه يقع التَّحَلُّلُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجِبُ الدَّمُ فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهُ، وَبِهِ يَقَعُ التَّحَلُّلُ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا دُونَهُ.
وَقَالَ أبو يوسف: يَجِبُ الدَّمُ فِي حَلْقِ نِصْفِ الرَّأْسِ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَهُ، وَبِهِ يَقَعُ التَّحَلُّلُ، وَلَا يَقَعُ فِيمَا دُونَهُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الدَّمِ بِحَلْقِ ثَلَاثَةِ شَعَرَاتٍ. قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِِه أَذًى مِنْ رأَسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) {البقرة: ١٩٦) تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَا يُحْلَقُ، وَإِنَّمَا يُحْلَقُ الشَّعْرُ فَإِذَا حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَمْعٍ مُطْلَقٍ، كَانَ حَالِقًا لِرَأْسِهِ وَثَلَاثُ شَعَرَاتٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْجَمْعِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الدَّمِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ يَقَعُ بحلق ثلاث شعرات، أو بقصرها. قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شيءٍ ". وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، كَالِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ بِهِ الدَّمُ، وَيَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ كَالرُّبُعِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِنْ حَلَقَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بالفدية،