مُوَافِقَةً لِلْهِبَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بقبض ومخالفة لها من صِفَةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِقْبَاضٍ مِنَ الْوَاهِبِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ بِالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ قَبْضَ الْمُسْتَعِيرِ لَا يَزُولُ بِهِ مِلْكُ الْمُعِيرِ فَجَازَ أَنْ يَأْذَنَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَالْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ مُزِيلٌ لِمِلْكِ الْوَاهِبِ فَلَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِإِقْبَاضِ الْوَاهِبِ.
فَصْلٌ
: ثُمَّ الْعَارِيَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ تَامَّةٌ وَغَيْرُ لَازِمَةٍ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ ارْتِفَاقٍ وَمَعُونَةٍ وَسَوَاءٌ قَدَّرَهَا بِمُدَّةٍ أَمْ لَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَدَّرَهَا الْمُعِيرُ بمدة لزمه لم يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَقَضِّيهَا وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهَا لَمْ يَلْزَمْ وَرَجَعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ لِيَكُونَ لِذِكْرِ الْمُدَّةِ تَأْثِيرٌ مُفِيدٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ لُزُومَهَا يُخْرِجُهَا عَنْ حُكْمِ الْعَارِيَةِ إِلَى حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُهَا بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْمُعِيرِ لَاخْتَلَفَ فِي حَقِّ الْمُسْتَعِيرِ وَفَائِدَةُ الْمُدَّةِ مَنْعُ الْمُسْتَعِيرِ مِنَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِ الْعَارِيَةِ وَتَمَامِهَا بِالْقَبْضِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا تَلَفَ مِنْ أَجْزَائِهَا بِالِاسْتِعْمَالِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَلَفِ عَيْنِهَا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ سَوَاءٌ تَلِفَتْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ أَوْ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّعَدِّي وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِنْ كَانَ مِمَّا يَخْفَى هَلَاكُهُ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَظْهَرُ هَلَاكُهُ لَمْ يَضْمَنْ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ إِنْ تَلِفَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ تَلَفَ بِغَيْرِهِ ضَمِنَ.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ وَهُوَ مَذْهَبُ جبارة وأبي قتادة وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ الْعَنْبَرِيِّ وَدَاوُدَ إِنْ شَرَطَ ضَمَانَهَا لَزِمَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَلْزَمْ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضمانٌ وهذا نص برواية عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أَتَتْكَ رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا فَقُلْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أعاريةٌ مضمونةٌ أَمْ عاريةٌ مؤداةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute