الْوَصَايَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا أَوِ اتَّسَعَ لَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ الْمُعَيَّنُ وَالْمُقَدَّرُ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ مَعَ اتِّسَاعِهِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُقَدَّرِ أَثَبَتُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بالمعين، ولأن الْمُعَيَّنَ إِنْ تَلِفَ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَالْمُقَدَّرُ إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ: لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ اسْتِوَاءُ الْمُعَيَّنِ، وَالْمُقَدَّرِ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهُمَا: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَجْزُ الثُّلُثِ دَاخَلَا عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا بِالْحِصَصِ. فَإِذَا أَوْصَى بعبده لرجل، وقيمته خمس مائة دِرْهَمٍ، وَبِدَارِهِ لِآخَرَ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبِخَمْسِمِائَةٍ لآخر، فوصاياه الثَّلَاثَةِ كُلُّهَا تَكُونُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ. فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَيْنِ فَصَاعِدًا، فَلَا عَجْزَ، وَهِيَ مُمْضَاةٌ.
وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَدْ عَجَزَ الثلث عن نصفها، فوجب أن يدخل القول عَلَى جَمِيعِهَا، وَيَأْخُذَ كُلُّ مُوصًى لَهُ بِشَيْءٍ نصفه، فيعطي الموصي الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ نَصْفَهُ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ نِصْفَهَا وذلك خمسمائة. وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ نِصْفَهَا وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. صَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة تَسْقُطُ الْوَصِيَّةُ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْمُقَدَّرَةِ، وَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَالدَّارِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَيْ وَصِيَّتِهِ لِدُخُولِ الْعَجْزِ بِالثُّلُثِ عَلَيْهِمَا. فَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ ربع الوصايا الثلاث. فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ رُبُعَ مَا جُعِلَ لَهُ.
وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَيُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا كُلَّهَا مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهَا، وَدُخُولِ الْعَجْزِ بِالنِّصْفِ عَلَيْهَا فَفِي إِجَازَتِهِمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِجَازَتَهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِالْمَنْعِ مَالِكِينَ لِمَا مَنَعُوهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِالْإِجَازَةِ مُعْطِينَ لِمَا أَجَازُوهُ.
فَعَلَى هَذَا: قَدْ مَلَكَ أَهْلُ الْوَصَايَا نِصْفَهَا بالوصية لاحتمال الثلث لها ولا يفتقر تمليكهم لَهَا إِلَى قَبْضٍ. وَنِصْفُهَا بِالْعَطِيَّةِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عنها ولا يتم ملكهم إلا بقبض.
القول الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ بِالْوَصِيَّةِ دُونَ الْعَطِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِالْخِيَارِ فِي عُقُودِ الميت لا يكون الورثة بالإمضاء لها عاقدين كَالْمُشْتَرِي سِلْعَةً إِذَا وَجَدَ وَارِثُهُ بِهَا عَيْبًا فَأَمْضَى الشِّرَاءَ وَلَمْ يَفْسَخْهُ: كَانَ تَنْفِيذًا وَلَمْ يَكُنْ عَقْدًا، فَكَذَلِكَ خِيَارُهُ فِي إِجَازَةِ الْوَصِيَّةِ.