وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ تَعْلِيلًا بِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وَحِمَارٍ أَهْلِيٍّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْكِتَابِيُّ مِنْهُمَا أَبَاهُ وَأُمَّهُ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا. وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، وَلَا يُوجِبُ تَغْلِيبَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ؛ كَمَا لَمْ يُغَلَّبِ الْحَظْرُ فِي إِسْلَامِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا غُلِّبَ فِي النِّكَاحِ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي وَلَدِ الْكَافِرِ، وَإِنْ لَمْ يُغَلَّبْ حُكْمُ الْحَظْرِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَجَبَ حُكُمُ الذَّبِيحَةِ بِمَثَابَتِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُشْرِكُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكَ يُشْرِكُهُ الشِّرْكُ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالشِّرْكَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَيَرْتَفِعُ الشِّرْكُ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْفَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الإسلام يعلوا، وَلَا يُعلى ".
وَإِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا، وَالْآخَرُ مُشْرِكًا، غَلَّبَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمِ الشرك، ويجتمع الشَّرْطَانِ؛ لِأَنَّهُمَا بَاطِلَانِ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَإِذَا لَمْ يَرْتَفِعْ حُكْمَا أَحَدِهِمَا وَجَبَ أن يغلب الحظر منهما.
[(مسألة:)]
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُؤْكَلُ مَا قَتَلَتْهُ الْأُحْبُولَةُ كَانَ فِيهَا سلاحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهَا ذكاةٌ بِغَيْرِ فَعْلِ أحدٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ الْمُمْتَنِعَ لِتَعَذُّرِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِأَسْبَابٍ تُجْعَلُ حِيَلًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَنَوَّعُ بِأَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: الْجَوَارِحُ الْمُرْسَلَةُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا.
وَالثَّانِي: السِّلَاحُ الَّذِي يَرْمِي بِهِ، فَإِنْ قَتَلَ بِثِقَلِهِ كَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ، فَهُوَ وَقِيذٌ لَا يُؤْكَلُ وَإِنْ قَطَعَ بِحَدِّهِ أَوْ بَعْدَ تَدْمِيَةٍ، فَهُوَ مَأْكُولٌ، فَأَمَّا الْمِعْرَاضُ. فَهُوَ آلَةٌ تَجْمَعُ خَشَبًا وَحَدِيدًا، فَإِنْ أَصَابَ بِحَدِّهِ أُكِلَ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا نُصِبَ لَهُ مِنَ الْآلَةِ الَّتِي تُفَارِقُ آلَتَهُ، فَتَضْغَطُهُ، وَتُمْسِكُهُ كَالْفَخِّ وَالشَّرَكِ وَالشَّبَكَةِ وَالْأُحْبُولَةِ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ وَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ حَلَّ، وَإِنْ فَاتَتْ ذَكَاتُهُ وَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْآلَةِ سِلَاحٌ قَطَعَ بِحَدٍّ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا سِلَاحٌ، فَمَاتَ بِضَغْطِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ فِيهَا سِلَاحٌ قَطَعَ بِحَدِّهِ يَحِلُّ اسْتِدْلَالًا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَفَرَى الْأَوْدَاجَ، فَكُلْ ".
وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَقْرُهُ بِحَدٍّ، فَحَلَّ أَكْلُهُ كَالْمَرْمِيِّ بِحَدِيدَةٍ.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ.