افتراقهما مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْنَعَ الْغُرَمَاءَ مِنَ الْمَبِيعِ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى حَقِّهِ مِنْهُ وَيَزُولَ عَنْهُ ضَرَرُ الْعَجْزِ بِهِ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ خَرَّجَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي الْفَلَسِ إنَّهُ يَأْخُذُ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ رُجُوعَ الْبَائِعِ فِي الْفَلَسِ أَقْوَى مِنْ رُجُوعِ الزَّوْجِ فِي الصَّدَاقِ، لِأَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَبِيعِ زَائِدًا وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِالصَّدَاقِ زَائِدًا فَجَازَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ مَا بَقِيَ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ وَلَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِجَمِيعِ حَقِّهِ مِنَ الْبَاقِي لِضَعْفِ سَبَبِهِ وَالْفَرْقُ الثَّانِي أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا رَجَعَ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْبَاقِي لِأَنَّ ذِمَّةَ الزَّوْجَةِ مَلِيئَةٌ فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ وَالْبَائِعُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ إِلَّا بِاسْتِرْجَاعِ مَا بَقِيَ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُشْتَرِي بِالْفَلَسِ خَرِبَةٌ وَوِزَانُ ذَلِكَ أن تكون الزوجة مفلسة.
[(مسألة)]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَكْرَاهُ أَرْضًا فَفَلَسَ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فِي أَرْضِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُحَاصَّ الْغُرَمَاءَ بِقَدْرِ مَا أَقَامَتِ الْأَرْضُ فِي يَدَيْهِ إِلَى أَنْ أَفْلَسَ وَيَقْلَعَ الزَّرْعَ عَنْ أَرْضِهِ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ الْمُفْلِسُ وَالْغُرَمَاءُ بِأَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ إِجَارَةً مِثْلَ الْأَرْضَ إِلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ لِأَنَّ الزَّارِعَ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِفَلَسِ الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا جَازَ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ بِالْفَلَسِ وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِالْفَلَسِ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الرَّجُوعَ بِسِلْعَتِهِ فِي الْمَبِيعِ دُونَ غَيْرِهِ وَمَا سِوَاهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} . وَهَذَا خَطَأٌ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ "، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُضَمَّنُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ بِالْمُسَمَّى وَفِي الْفَاسِدِ بِالْمِثْلِ فَلَمَّا أَوْجَبَ الْفَلَسُ اسْتِرْجَاعَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَوَجَبَ اسْتِرْجَاعُهُ إِذَا كَانَ مَنْفَعَةً، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَمْلِكُ بِهِ الرَّقَبَةَ وَالْمَنْفَعَةَ فَلَمَّا جَازَ فَسْخُ الْبَيْعِ بِالْفَلَسِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فَسْخُ الْإِجَارَةِ بِالْفَلَسِ، وَلِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ مِنَ الْمَنَافِعِ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا تَحْدُثُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَمَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ فَلَمَّا جَازَ بِالْفَلَسِ فَسْخُ الْعَقْدِ عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي فَسْخِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ إِلَّا فِي ثَانِي الْحَالِ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْعُمُومِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَسْخَ الْإِجَارَةِ بِالْفَلَسِ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو فَلَسُ الْمُسْتَأْجِرِ إِذَا لَمْ يَدْفَعِ الْأُجْرَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute