(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الشَّحِيحُ الَّذِي يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ فِي النَّفَقَةِ فَلَا يَأْكُلُ حَسْبَ كِفَايَتِهِ وَلَا يَلْبَسُ بِقَدْرِ حَالِهِ شُحًّا عَلَى نَفْسِهِ وَبُخْلًا وَحُبًّا لِلْمَالِ وَجَمْعًا، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يُوجِبَانِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ بِالشُّحِّ وَالتَّقْصِيرِ كَمَا يُوجَبُهُ بِالسَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ.
لأن الله تعالى فقد نَهَى عَنْهُمَا فَقَالَ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: ٢٩]
وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ يُفِيدُ جَمْعَ الْمَالِ وَإِمْسَاكَهُ لَا إِنْفَاقَهُ.
وَلَيْسَ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ يُوجِبُ الْحَجْرَ. فَمَنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ عُقُودِهِ وَلَا كَفَّهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. وَلَكِنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ جَبْرًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ إِلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ إِخْفَاءُ مَالِهِ لِعِظَمِ شُحِّهِ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
[(مسألة)]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا حَجَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ لِسَفَهِهِ وَإِفْسَادِهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ حَجْرَ السَّفَهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ بِخِلَافِ حَجْرِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ لِأَنَّ ثُبُوتَ السَّفَهِ يَكُونُ بِاجْتِهَادٍ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ وَالصِّغَرُ وَالْجُنُونُ لَا اجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ بِالنَّصِّ فَثَبَتَ بِغَيْرِ حُكْمٍ وَسَوَاءٌ كَانَ لِلسَّفِيهِ أَبٌ وَأُمٌّ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ سَفَهِهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ عَلَيْهِ.
وَحَجْرُ السَّفَهِ أَعَمُّ مِنْ حَجْرِ الْفَلَسِ لِأَنَّ حَجْرَ الْفَلَسِ يَخْتَصُّ بِمَالِهِ دُونَ عُقُودِهِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَالِهِ وَحَجْرُ السَّفَهِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ عُقُودِهِ. فَيَقُولُ فِي السَّفَهِ قد حجزت عَلَى فُلَانٍ بِخِلَافِ الْفَلَسِ فِي الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَجْرِ أَعَمُّ.
فَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ قَوْلًا عَلَى مَا مَضَى أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ. وَهَلْ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الحجر عليه أم لا على وجهين:
أحدهما: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْحَجْرَ حُكْمٌ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْإِشْهَادِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْحَجْرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ إِظْهَارُ مَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ مُعَامَلَتِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُحَصَّلُ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ الْحَجْرُ قَبْلَ الْإِشْهَادِ. وَيَكُونُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فَإِذَا أَشْهَدَ فَقَدْ تَمَّ الْحَجْرُ. وَيُخْتَارُ لَهُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِإِيقَاعِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ أشهر لأمره.