فَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى وُجُوبِ إِشْهَادِهِ عَلَى شَهَادَتِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ، لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ الْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْحَالَيْنِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ شَهَادَتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ عَلَى شهادته لثلاث مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَدَاؤُهَا دُونَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي التَّحَمُّلِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ بِهِ.
وَالثَّانِي: الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا لَا يُسْقِطُ فَرْضَ أَدَائِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِالتَّحَمُّلِ فَرْضَانِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُقِرَّ، لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِشْهَادُ عَلَى إِقْرَارِهِ لَمْ يَلْزَمِ الشَّاهِدَ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي أَنْ يُعْتَبَرَ الْحَقُّ الْمَشْهُودُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْتَقِلُ إِلَى الْأَعْيَانِ كَالْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَى بَطْنٍ بَعْدَ بَطْنٍ، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ، لِأَنَّ الْبَطْنَ الْمَوْجُودَ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ بِالْأَدَاءِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهُ. وَالْبَطْنُ الْمَفْقُودُ قَدْ لَا يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ، فَلَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا فِي حَقِّهِ.
وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ الْمَعْقُودَةُ إِلَى مُدَّةٍ قَدْ لَا يَعِيشُ الشُّهُودُ إِلَى انْقِضَائِهَا فِي الْأَغْلَبِ، فَهِيَ بِمَثَابَةِ الْمُنْتَقَلِ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ.
وَكَذَلِكَ الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةِ بِالْأَجَلِ الْبَعِيدِ.
فَأَمَّا فِي الْحُقُوقِ الْمُعَجَّلَةِ، أَوْ فِي الْبَيَاعَاتِ الْمَقْبُوضَةِ النَّاجِزَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ فِيهَا غَيْرُ الْأَدَاءِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، لِأَنَّ التَّوْثِيقَ بِهَا غَيْرُ مُسْتَدَامٍ وَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الشَّاهِدُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ جَازَ، وَكَانَ بِهَا مُتَطَوِّعًا، لِأَنَّهَا اسْتِظْهَارٌ فِي التَّوْثِيقِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، كَالْمُتَحَمِّلِ لِلْخَبَرِ إِذَا ابْتَدَأَ بِرِوَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ جَازَ وَكَانَ بِهَا مُتَطَوِّعًا.
وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الشَّاهِدِ فَرْضُ الْأَدَاءِ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِذَا أَحْدَثَ التَّنَازُعَ مَعَ إِمْكَانِ الشَّهَادَةِ، فَإِنِ انْقَطَعَ التَّنَازُعُ، سَقَطَ عَنْهُ فَرَضُ الْأَدَاءِ وَالْإِشْهَادِ مَعًا.
(فَصْلٌ)
: وَالْفَصْلُ الثَّانِي: مَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ.
وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِّ الْمَشْهُودِ فِيهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَتَجُوزُ فِيهَا الْإِشْهَادُ عَلَى الشَّهَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ