فَصَعِدَ الْعَبَّاسُ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى أَعَادَ الْمِيزَابَ إِلَى مَوْضِعِهِ فَدَلَّ مَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَصْبِهِ وَمِنْ عُمَرَ فِي إِعَادَتِهِ وَمِنِ الصَّحَابَةِ فِي إِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ مَنْقُولٌ وَفِعْلٌ مَتْبُوعٌ.
وَالثَّانِي: مُشَاهَدَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى مَا وَطِئَهُ مِنَ الْبِلَادِ وَفِيهَا الْأَجْنِحَةُ وَالْمَيَازِيبُ فَمَا أَنْكَرَهَا وَأَقَرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، وَجَرَى خُلَفَاؤُهُ وَصَحَابَتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى عَادَتِهِ فِي إِقْرَارِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ سَلَكُوا مِنَ الْبِلَادِ أَكْثَرَ مِمَّا سَلَكَ، وَشَاهَدُوا مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا أَكْثَرَ مِمَّا شَاهَدَ، فَلَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ عارض فيه أحد، فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ وَزَوَالِ الْخِلَافِ عَنْهُ، وَخَالَفَتِ الْأَجْنِحَةُ الدِّكَاكَ، لِأَنَّ الدِّكَاكَ مُضِرَّةٌ بِالْمُجْتَازِينَ مُضَيِّقَةٌ لِطُرُقَاتِهِمْ وَلَيْسَ فِي الْأَجْنِحَةِ مَضَرَّةٌ وَلَا تَضْيِيقٌ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ فِعْلِهِ وَجَوَازُ إِقْرَارِهِ فَسَقَطَ عَلَى مَارٍّ فَقَتَلَهُ ضِمْنَ دِيَتَهُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَتَعْزِيرِ الْإِمَامِ وَضَرْبِ الزَّوْجَةِ، وَأَمَّا الْمِيزَابُ إِذَا سَقَطَ فَأَتْلَفَ مَارًّا فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُوجَدُ مِنْهُ بُدٌّ فَصَارَ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ وَغَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَى الْجَنَاحِ فَافْتَرَقَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا يَلْزَمُهُ مَا تَلِفَ بِهِ كَالْجَنَاحِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِجْرَاءِ مَائِهِ إِلَى بِئْرٍ يَحْفِرُهَا فِي دَارِهِ فَيَكُونُ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْجَنَاحِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيمَا تَلِفَ بِالْجَنَاحِ وَالْمِيزَابِ نُظِرَ فِيمَا وَقَعَ بِهِ التَّلَفُ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ دَارِهِ ضَمِنَ بِهِ جَمِيعَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ خَارِجًا وَبَعْضُهُ فِي حَائِطِهِ فَسَقَطَ جَمِيعُهُ فَقُتِلَ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ من ديته ثلاثة أقاويل حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي جَامِعِهِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ جَمِيعَ دِيَتِهِ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْحَائِطِ مِنَ الْخَشَبِ جَذَبَهُ الْخَارِجُ مِنْهُ فَضَمِنَ بِهِ جَمِيعَ دِيَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ بِهِ نِصْفَ دِيَتِهِ، لِأَنَّ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْهُ مَوْضُوعٌ فِي مِلْكِهِ وَالْخَارِجَ مِنْهُ مُخْتَصٌّ بِالضَّمَانِ، فَصَارَ التَّلَفُ مِنْ جِنْسَيْنِ مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ فَضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنَ الدِّيَةِ بِقِسْطِ الْخَارِجِ مِنَ الْخَشَبَةِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ طُولُ الْخَشَبَةِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ ضَمِنَ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ دِيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ ضَمِنَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ دِيَتِهِ يُقَسَّطُ عَلَى قَدْرِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute