أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَتَانِي آتٍ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: قُلْ لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وبعمرةٍ " وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْأَوْلَى الْإِمْسَاكُ عَنْ ذِكْرِهِ، لِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَلْبِيَتِهِ قَطُّ لَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً ". وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَيُسَمِّي أَحَدُنَا حَجًّا أَوْ عُمْرَةً؟ فَقَالَ: أتنبؤن إِلَيْهِ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ إِنَّمَا هِيَ نِيَّةُ أحدكم ".
[مسألة]
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنَّ لَبَّى بِأَحَدِهِمَا فَنَسِيَهُ، فَهُوَ قَارِنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَحْرَمَ بِأَحَدِ نسكين، ثم نسيه فلم يدر أبعمرة كَانَ إِحْرَامُهُ أَمْ بِحَجٍّ؟ فَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِهِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يَكُونُ قَارِنًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ فِي بَابِ وجه الإهلال ومن لبى يَنْوِي شَيْئًا، فَنَسِيَ مَا نَوَى، فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْرِنَ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ بَاقٍ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ تَحَرَّى رَجَوْتُ أَنْ يُجَزِّئَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَقْرِنَ، وَجَوَّزَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِمَا وَيَجْتَهِدَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى فِي الْإِنَائَيْنِ، وَيَجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْجِهَتَيْنِ، وَفِي الصَّوْمِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الزَّمَانَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَارِنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَرَّى؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ مَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، كَالْإِنَائَيْنِ وَالْجِهَتَيْنِ، فَأَمَّا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فِي فِعْلِهِ فَالتَّحَرِّي غَيْرُ جَائِزٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ وَيَبْنِي فيه على اليقين كما لو اشتبه عليه أداء صلاة وأعداد ركعات عمل فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ، وَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ، فَكَذَا الْإِحْرَامُ، لَمَّا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ وَجَبَ أَنْ يعمل فيه على اليقين، فينوي القرن وَلَا يُسَوَّغُ لَهُ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ وَالتَّحَرِّيَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا عَلَيْهِ، دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، كَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ وَالْأَوَانِي؛ لِأَنَّ عَلَى الْقِبْلَةِ دَلَائِلَ، وَعَلَى تَنْجِيسِ الْأَوَانِي دَلَائِلَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا، فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَى النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ دَلَالَةٌ، يُعْمَلُ عَلَيْهَا، وَلَا أَمَارَةَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاجْتِهَادُ، وَلَزِمَهُ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ، وَأَمَّا إِذَا شَكَّ، هَلْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ مُعْتَمِرًا؟ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، فَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ: يَكُونُ قَارِنًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، قَوْلًا وَاحِدًا، وَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ، يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مُحْتَمَلٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute