خَيْرًا، وَقَالَ لَهُ: " إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ أَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَالْجِزْيَةُ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ "
وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَمِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وأخذها من أهل أيلة، وهم ثلاث مائة رَجُلٍ أَخَذَ مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِأَنَّ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مَعُونَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنَاةً بِالْمُشْرِكِينَ فِي تَوَقُّعِ اسْتِنْصَارِهِمْ، وَذِلَّةً لَهُمْ رُبَّمَا تَبْعَثُهُمْ على الإسلام، فجور النَّصُّ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ أَخْذَهَا مِنْهُمْ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْكُفَّارِ، لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، فهي مَأْخُوذَةٍ مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ،
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - إنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا وَلَا عَجَمًا، فَاعْتَبَرَهَا بِالْأَدْيَانِ دُونَ الْأَنْسَابِ.
وَالثَّانِي: - عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - بِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، إِذَا كَانُوا عَجَمًا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا عَرَبًا.
وَالثَّالِثُ: - مَا قَالَهُ مَالِكٌ - إِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ مِنْ كِتَابِيٍّ، وَوَثَنِيٍّ، وَعَجَمِيٍّ، وَعَرَبِيٍّ، إِلَّا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ دَانُوا دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: - مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - إِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَجَمِ سَوَاءً كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ أَوْ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَرَبِ سَوَاءً كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَجَعَلَهَا مُعْتَبَرَةً بِالْأَنْسَابِ دُونَ الْأَدْيَانِ، فَصَارَ الْخِلَافُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ تُقْبَلُ.
وَالثَّانِي: فِي الْعَرَبِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُقْبَلُ جِزْيَتُهُمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ.
فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَبُولِ جِزْيَتِهِمْ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا بَعَثَهُ عَلَى جَيْشٍ قَالَ لَهُ " ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذ الجزية من المجوس وليس لهم