أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَالْمُجَازَاةِ؛ لِعُمُومِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مَرْيَمَ: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) {آل عمران: ٣٥) فَأَطْلَقَ نَذْرَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْلِيقَهُ بِشَرْطٍ وَجَزَاءٍ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ النَّذْرَيْنِ فِي التَّبَرُّرِ وَالْمُجَازَاةِ.
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ) {التوبة: ٧٧) فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ فِي الْأَمْرَيْنِ.
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ " فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ النَّذْرَيْنِ.
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نَذْرٍ بِطَاعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِي الْمُجَازَاةِ، وَالتَّبَرُّرِ، كَالْأُضْحِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ تَمَسُّكًا بِدَلِيلِ لُغَةٍ وَشَرْعٍ.
أما اللغة فما حَكَاهُ الصَّيْرَفِيُّ عَنْ ثَعْلَبٍ، إنَّ النَّذْرَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَعْدٌ بِشَرْطٍ فَكَانَ عُرْفُ اللِّسَانِ فِيهِ مُسْتَعْمَلًا.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِاسْتِقْرَارِ أُصُولِهِ عَلَى الْفَرْقِ فِي اللُّزُومِ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْبُيُوعِ والإجارت لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ عُقُودِ غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ بِالْعَقْدِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ نَذْرُ الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا بِالْعَقْدِ، وَنَذْرُ غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ غَيْرَ لَازِمٍ بِالْعَقْدِ، وَكِلَا الِاسْتِدْلَالَيْنِ مَدْخُولٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَعُرْفُ اللِّسَانِ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِ جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ:
(فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي ... وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بُثَيْنَ لِقَوْلِي)
وَأَمَّا نَذْرُ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ، وَلَا قُرْبَةٍ فَكَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ الْبَصْرَةَ أَوْ لَا أَدْخُلَهَا، أَوْ آكُلَ لَذِيذًا، أَوْ لَا آكُلَهُ، أَوْ أَلْبَسَ جَدِيدًا، أَوْ لَا أَلْبَسَهُ فَلَيْسَ فِي فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَلَا فِي تَرْكِهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا قُرْبَةٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ فِعْلَهُ وَتَرَكَهُ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَيْتَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ فَقَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكِ " قِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَزَوَّجَ فَإِنْ قَصَدَ بِهِ غَضَّ الطَّرْفِ وَتَحْصِينَ الْفَرْجِ، كَانَ قُرْبَةً؛ فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ، وَالتَّلَذُّذَ كَانَ مُبَاحًا، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ؛ فَهَذَا حُكْمُ عَقْدِ الْبَابِ فِي أُصُولِ النذور.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute