للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَوَلِيمَةُ الْمَأْدُبَةِ: هِيَ الْوَلِيمَةُ لِغَيْرِ سَبَبٍ.

فَإِنَّ خُصَّ بِالْوَلِيمَةِ جَمِيعُ النَّاسِ سُمِّيَتْ جَفَلَى، وَإِنْ خُصَّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ سُمِّيَتْ نَقَرَى قَالَ الشَّاعِرُ:

(نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى ... لَا ترى الآدب فينا ينتقر)

فهذه الستة ينطق اسْمُ الْوَلَائِمِ عَلَيْهَا، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْوَلِيمَةِ يَخْتَصُّ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَيَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا مِنَ الْوَلَائِمِ بِقَرِينَةٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلِيمَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلْمِ، وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْقَيْدُ الْوَلْمُ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الرِّجْلَيْنِ، فَتَنَاوَلَتْ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ لِاجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ فِيهَا ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْوَلَائِمِ تَشْبِيهًا بِهَا، فَإِذَا أُطْلِقَتِ الْوَلِيمَةُ تَنَاوَلَتْ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ، فَإِنْ أُرِيدَ غَيْرُهَا قِيلَ: وَلِيمَةُ الْخُرْسِ، أَوْ وَلِيمَةُ الْإِعْذَارِ، وَقَدْ أَفْصَحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا، ثُمَّ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ وَلِيمَةَ غَيْرِ الْعُرْسِ لَا تَجِبُ.

فَأَمَّا وَلِيمَةُ الْعُرْسِ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّهُ عَاصٍ كَمَا يَبِينُ لِي فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ ".

فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ الْخَلُوقِ، فَقَالَ لَهُ مَهْيَمْ - أَيْ مَا الْخَبَرُ - قَالَ: أَعْرَسْتُ فَقَالَ لَهُ: أَوْلَمْتَ قَالَ: لَا قَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. وَهَذَا أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَنْكَحَ قَطُّ إِلَّا أَوْلَمَ فِي ضِيقٍ أَوْ سَعَةٍ، وَأَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ فِي سَفَرِهِ بِسَوِيقٍ وَتَمْرٍ وَلِأَنَّ فِي الْوَلِيمَةِ إِعْلَانٌ لِلنِّكَاحِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ "، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ إِجَابَةُ الدَّاعِي إِلَيْهَا وَاجِبَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْوَلِيمَةِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُسَبَّبِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السَّبَبِ أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُوبَ قَبُولِ الْإِنْذَارِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْذَارِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ "؛ وَلِأَنَّهُ طَعَامٌ لِحَادِثِ سُرُورٍ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْوَلَائِمِ.

وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْوَلِيمَةِ عَقْدُ النِّكَاحِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَفَرْعُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ.

وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَتَقَدَّرَتْ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ؛ وَلَكَانَ لها بدل عند الإعساء كَمَا يَعْدِلُ الْمُكَفِّرُ فِي إِعْسَارِهِ إِلَى الصِّيَامِ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ تَقْدِيرِهَا وَبَدَلِهَا عَلَى سُقُوطِ وجوبها.

<<  <  ج: ص:  >  >>