وَإِحْلَافُهُ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ إِلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْمُدَّعِي بِإِحْلَافِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي عَالِمًا بِاسْتِحْقَاقِ الْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَإِلَّا أَعْلَمَهُ الْقَاضِي أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ لَهُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، لِيَرَى رَأْيَهُ فِي إِحْلَافِهِ أَوْ تَرْكِهِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ إِلَى خِيَارِهِ فَلَهُ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتْرُكَ إِحْلَافَهُ فَلَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنَ الْيَمِينِ مَتَى أَرَادَ إِحْلَافَهُ بِالدَّعْوَى الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَوْ قَالَ قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْيَمِينِ وَقَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْهَا سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَلَمْ تَسْقُطِ الدَّعْوَى فَإِنْ أَرَادَ إِحْلَافَهُ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْلِفَهُ بِالدَّعْوَى الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى فَيُحْلِفَهُ بِالدَّعْوَى الْمُسْتَأْنَفَةِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسْأَلَ إِحْلَافَهُ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُمْسِكَ عَنْ ذِكْرٍ بَيِّنَتِهِ عِنْدَ سُؤَالِهِ إِحْلَافَ خَصْمِهِ، فَلَا يَذْكُرُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً وَلَا أَنْ لَيْسَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُلْزِمَهُ ذِكْرَ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ خَصْمُهُ.
فَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَعْدَ إِحْلَافِ خَصْمِهِ بَيِّنَةً سَمِعَهَا، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ: لَا يَسْمَعُهَا لِانْفِصَالِ الْحُكْمِ بِالْيَمِينِ، وَلِأَنَّ سُقُوطَ الدَّعْوَى بِهَا مُوجِبٌ لِسُقُوطِ الْحَقِّ.
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ أَوْلَى مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.
وَلِأَنَّ فِي الْبَيِّنَةِ إِثْبَاتًا، وَفِي الْيَمِينِ نَفْيًا، وَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى مِنَ النَّفْيِ.
وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا وَجَدَ الْبَيِّنَةَ سَقَطَ حُكْمُ الْيَمِينِ.
وَلَيْسَ سُقُوطُ الدَّعْوَى مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَسْقُطُ إِلَّا بِقَبْضٍ أَوْ إِبْرَاءٍ وَلَيْسَتِ الْيَمِينُ بِقَبْضِ وَلَا إِبْرَاءٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً غَائِبَةً، وَيَسْأَلَ إِحْلَافَ خَصْمِهِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُحْلِفَهُ لِأَنَّ الْغَائِبَةَ كَالْمَعْدُومَةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُقَدَّمَ وَلَا تُقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا وَجَبَ تَعْجِيلُهُ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ.
فَإِنْ أَحْلَفَهُ وَحَضَرَتِ الْبَيِّنَةُ جَازَ أَنْ يَسْمَعَهَا وَيَحْكُمَ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، وَيَسْأَلَ إِحْلَافَهُ مَعَ حُضُورِ بَيِّنَتِهِ، فَفِي جَوَازِ إِحْلَافِهِ وَجْهَانِ: