وَزَعَمَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ هُوَ الْقِيَاسُ وَنَسَبَهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ.
وَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ: إنَّ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ مَعْنَى الْقِيَاسِ.
يُرِيدُ بِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حُكْمٍ غَيْرِ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ هُوَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ، فَافْتَرَقَا، غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ، وَقَدْ لَا يَفْتَقِرُ الِاجْتِهَادُ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا الِاجْتِهَادَ مُقَدِّمَةً لِلْقِيَاسِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَهُ أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي الِاجْتِهَادِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِيمَنْ يَجُوزُ له الاجتهاد.
والثاني: فِي وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ.
وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَجِبُ بِالِاجْتِهَادِ.
وَالرَّابِعُ: فِي حُكْمِ الِاجْتِهَادِ.
( [مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ] )
:
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُجْتَهِدٌ فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ.
والثاني: مجتهد في مخصوص منها.
المجتهد في جميع الأحكام:
فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: إِشْرَافُهُ عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ قَصَّرَ فِي أَحَدِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ.
وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِوُجُوهِ النُّصُوصِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ