للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَكُونُ حُجَّةً فِي غَيْرِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُوجِبًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْقِيَاسُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، لَا الْإِجْمَاعَ.

وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيمَا عَدَا حَالَةَ الْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَسُغِ الِاجْتِهَادُ فِي حَالَةِ الْإِجْمَاعِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي حُكْمٍ. فَأَمَّا حَمْلُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْيَقِينِ فَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَنْصِبْ عَلَيْهَا دَلِيلًا.

وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا.

وَقَوْلُهُ مَدْفُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي حُكْمٍ فَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ وَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ:

قَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي وَيَجِبُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُثْبِتِ اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي النَّفْيِ كَمَا تَجِبُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الدَّلِيلَ يَجِبُ عَلَى النَّافِي كَوُجُوبِهِ عَلَى الْمُثْبِتِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفِيُ الْحُكْمِ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّبَ عَلَى الْأَحْكَامِ أَدِلَّةَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ. وَالنَّافِي لِلْحُكْمِ مُثْبِتٌ لِضِدِّهِ فَلَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ.

فَأَمَّا وُجُوبُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي دُونَ الْمُنْكِرِ فَلِأَنَّ يَمِينَ الْمُنْكِرِ كَبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي فَصَارَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى الْبَيِّنَةِ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِمَا.

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَحْدُثَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الْخِلَافِ فِي عَصْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي حُكْمٍ عَلَى قَوْلَيْنِ فَيُجْمِعُ التَّابِعُونَ عَلَى أَحَدِهِمَا: فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ حُكْمَ الِاخْتِلَافِ ثَابِتٌ، وَأَنَّ مَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، لِأَنَّ انْقِرَاضَ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حُكْمِ إِجْمَاعٍ مِنْهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَفِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ إِبْطَالِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ فَصَارَ فِي إِثْبَاتِ إِجْمَاعِ التَّابِعِينَ إِبْطَالُ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَجُزْ.

وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسَبِيُّ وَتَابَعَهُ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَدْ زَالَ حُكْمُ الِاخْتِلَافِ بِمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ كَمَا يَزُولُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ إِجْمَاعُهُمْ.

وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِانْقِرَاضِهِمْ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ انْقِرَاضِهِمْ عَلَى اخْتِلَافٍ أَوْ إِجْمَاعٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>