وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَرِبَ أَحَدُكُمْ تِسْعَةَ أَقْدَاحٍ فَلَمْ يَسْكَرْ فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ شَرِبَ الْعَاشِرَ فَسَكِرَ فهو حرام، فهذا ما عاضد السُّنَّةَ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ كَثِيرًا.
فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَمِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ لِأَمْرَيْنِ لُغَةً وَشَرْعًا:
أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ يَنْتَفِي عَنِ الْآخَرِ، فَيُقَالُ لِعَصِيرِ الْعِنَبِ خَمْرٌ وَلَيْسَ بِنَبِيذٍ، وَيُقَالُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ نَبِيذٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ فِي شِعْرِهِ:
(دَعِ الْخَمْرَ يَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ أَخَاهَا مُجْزِيًا لِمَكَانِهَا)
(فَإِنْ لَمْ يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا)
فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيذَ غَيْرُ الْخَمْرِ، وَهُوَ مِنْ فصحاء العرب المحتج بقوله فِي اللُّغَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى حُكْمُ الْخَمْرِ فِي النَّبِيذِ مِنْ تَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّهِ، وَتَفْسِيقِ شَارِبِهِ، انْتَفَى عَنْهُ اسْمُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ مَا علق بالاسم من حكم لم يزل مع موجود الِاسْمِ، كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عَلِقَ بِعِلَّةٍ لَمْ يَزَلْ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ تحريم الأنبذة ما يعم بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى وَجَبَ أن يكون ثباته عاماً وما لم يكن ثباته كَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا. وَلَيْسَ فِيهِ تَوَاتُرٌ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْرِبَةِ، قَدْ كَانَتْ حَلَالًا وَتَحْرِيمُهَا نُسِخَ وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ والنَّصُّ مُخْتَصٌّ بِالْخَمْرِ دُونَ النَّبِيذِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةِ النَّبِيذِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيذَ بِالْمَدِينَةِ عَامٌّ وَالْخَمْرُ فِيهَا نَادِرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيذَ يُعْمَلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَالْخَمْرُ يُجْلَبُ إِلَيْهَا مِنَ الشَّامِ وَالطَّائِفِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ.
فَلَوِ اسْتَوَيَا فِي التَّحْرِيمِ لَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ نَصًّا أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى بَيَانِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَمَّا عَدَلَ بِالنَّصِّ عَنِ النَّبِيذِ إِلَى الْخَمْرِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالتَّحْرِيمِ دُونَ النَّبِيذِ.
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: مَا حَرَّمَ شَيْئًا إِلَّا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنَّهُ حَرَّمَ الزِّنَا وَأَبَاحَ النِّكَاحَ، وَحَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَأَبَاحَ لَحْمَ الْجَمَلِ، وَحَرَّمَ الْحَرِيرَ وَأَبَاحَ الْقُطْنَ وَالْكِتَّانَ، وَحَرَّمَ الْغَارَةَ وَأَبَاحَ الْغَنِيمَةَ، وَحَرَّمَ التَّعَدِّيَ وَالْغَلَبَةَ وَأَبَاحَ الْجِهَادَ، وَقَدْ حَرَّمَ