(البقرة: ١٩٦) فَأَمَرَ بِإِبْلَاغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَمَحِلُّهُ الْحَرَمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ العَتِيقِ} .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ بِهَدْيِهِ إِلَى مَكَّةَ مَعَ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فَكَانَ يَنْحَرُهُ فِي الْفِجَاجِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَلَوْ جَازَ نَحْرُهُ فِي الْحِلِّ لَكَانَ لَا يَتَعَذَّرُ بِإِنْفَاذِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَلَكَانَ نَحْرُهُ بِحَضْرَتِهِ أَفْضَلَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْفَذَهُ إِلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ نَحْرَهُ فِي الْحِلِّ لَا يَجُوزُ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَزِمَ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ إِرَاقَتُهُ فِي الْحَرَمِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الدِّمَاءِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} فَأَوْجَبَ الْهَدْيَ وَلَمْ يَجْرِ لِلْمَكَانِ ذِكْرٌ، فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ نَحْرِهِ عُقَيْبَ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ.
رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: " أَحُصِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَنَحَرْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ " فَدَلَّ عَلَى نَحْرِ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِحْصَارِهِ بِالْحُدَيْبِيَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَ هَدْيَهُ إِلَى الْحَرَمِ.
قِيلَ: هَذَا تَأْوِيلٌ يَرُدُّهُ نَصُّ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ، الهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الْهَدْيَ أَنْ يَصِلَ مَحِلَّهُ مِنَ الْحَرَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْحُدَيْبِيَةُ الَّتِي نَحَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الحرم.
قيل: هَذَا صَحِيحٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا بَلَغَتْ رَاحِلَتُهُ إِلَى ثَنِيَّةِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ بَرَكَتْ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: ثَقُلَ عَلَيْهَا الْحَرَمُ، وَهُوَ عَلَيَّ أَثْقَلُ، فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْحَرَمَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحَرْنَا فِي حِلٍّ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ ولأن مَوْضِعٌ لِتُحَلُّلِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِهَدْيِهِ كَالْحَرَمِ، وَلِأَنَّ إِحْلَالَ الْمُحْصَرِ يَكُونُ بِالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ، فَلَمَّا كَانَ الْحَلْقُ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ، كَذَلِكَ النَّحْرُ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيِ التَّحَلُّلِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ مِنَ الْحِلِّ كَالْحَلْقِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عن قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مِحِلَّهُ} (البقرة: ١٩٦) فَالْمَحِلُّ مَوْضِعُ الإحلال، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لضياعة بِنْتِ الزُّبَيْرِ: أَحْرِمِي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّيَ حَيْثُ حَبَسْتَنِي، وقَوْله تَعَالَى: {ثمَّ مَحِلُّهَا إلَى البَيْتِ العَتِيقِ) {الحج: ٣٣) وَارِدٌ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيِهِ إِلَى مَكَّةَ مَعَ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فَذَاكَ فِي غَيْرِ السَّنَةِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute