للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ إِذَا اجْتَهَدَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْتَبِيحُ الِاجْتِهَادَ بِرَأْيِهِ أَوْ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى دَلَائِلِ الْكِتَابِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي اجْتِهَادِهِ إِلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَعَانِي مَا خَفِيَ مِنْهُ مِنْ جَمِيعِ أُمَّتِهِ، فَكَانَ اجْتِهَادُهُ بَيَانًا وَإِيضَاحًا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ وَلَا يَرْجِعَ إِلَى أَصْلٍ مِنَ الْكِتَابِ، لِأَنَّ سُنَّتَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ مِثْلُ الْكِتَابِ قَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا، فَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِنَّمَا أَجْتَهِدُ رَأْيِي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ ".

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي عِصْمَةِ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَطَأِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِي اجْتِهَادِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ لِتَسْكُنَ النَّفْسُ إِلَى الْتِزَامِ أَوَامِرِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْخَطَأِ عَنِ اجْتِهَادِهِمْ.

وَهَذَا مُقْتَضَى الْوَجْهِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُمْ لَا يَجْتَهِدُونَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ مِنْ نَصٍّ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ فِيهِ لِوُجُودِهِ مِنْهُمْ لَكِنْ لَا يُقِرُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِيَزُولَ الِارْتِيَابُ بِهِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مُقِرًّا عَلَيْهِ، لِأَنَّ دَاوُدَ قَدْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَاسْتَدْرَكَهُ اللَّهُ بِإِصَابَةِ سُلَيْمَانَ، وَاجْتَهَدَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَسْرَى بَدْرٍ بَعْدَ مُشَاوَرَةِ أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَأَنْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: ٦٧] .

وَهَذَا مُقْتَضَى الْوَجْهِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدُوا بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِنَصٍّ.

وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصُومُ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْخَطَأِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَسْتَدْرِكُ خَطَأَهُ لِانْخِتَامِ النُّبُوَّةِ بِهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ بُعِثَ بَعْدَهُ مَنْ يَسْتَدْرِكُ خَطَأَهُ.

وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مُقَرِّينَ عَلَى الْخَطَأِ فِي وَقْتِ التَّنْفِيذِ وَلَا يُمْهَلُونَ فِيهِ عَلَى التَّرَاخِي حَتَّى يَسْتَدْرِكَهُ نَبِيٌّ بَعْدَ نَبِيٍّ فَاسْتَوَى فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ.

فَهَذَا حُكْمُ اجْتِهَادِهِمْ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ.

فَأَمَّا أُمُورُ الدُّنْيَا فَيَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِيهَا الْخَطَأُ وَالسَّهْوُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ ضَجَّةً بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: إِنَّهُمْ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ. فَقَالَ: " وَمَا يَنْفَعُ ذَلِكَ إِنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهُ لَمْ يَضُرَّهُمْ " فَبَلَغَهُمْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَقَلَّ حَمْلُ النَّخْلِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَرَدُّوهُ إِلَيَّ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ به ".

<<  <  ج: ص:  >  >>