للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدهما: أن من استوعب دينه ما بيده فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ النَّاسَ صِنْفَيْنِ صِنْفًا يُؤْخَذُ مِنْهُ وَصِنْفًا تُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهَذَا مِمَّنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال في الحرم خَطِيبًا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هذا أشهر زَكَاتِكُمُ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقْضِهِ ثُمَّ يزكي بقية ماله ".

وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنْهَا كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَالٌ يُمْلَكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مانعاً سنة كالميراث لا يستحق ثبوت الدين فيه وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَسْتَحِقُّ إِزَالَةُ يَدِهِ عَنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَالِ الْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لِأَجْلِ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ وَفِي الْمَالِ زَكَاةٌ، لَوَجَبَتْ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ وَالسَّوْمِ.

وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الثَّانِي عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهمْ صَدَقَةُ تُطَهِّرَهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا) {التوبة: ١٠٣) وَمَا بِيَدِهِ مَالُهُ يَجُوزُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَرَوَى عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ مَعَكَ مَائِتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْكَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ " وَهُوَ مَالِكٌ لِمَا بِيَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ، وَلِأَنَّ رَهْنَ الْمَالِ فِي الدَّيْنِ أَقْوَى واستحقاقه بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الرَّقَبَةِ، وَالدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ فِي الدَّيْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَانَ أَوْلَى، أَنْ لَا يَكُونَ مُجَرَّدُ الدَّيْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالزَّكَاةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً فِي الْعَيْنِ، أَوْ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ مَا فِي الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْهَا، كَالْعَبْدِ إِذَا جَنَى وَفِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِثَمَنِهِ لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْأَرْشُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مَا ثَبَتَ مِنَ الدَّيْنِ أَوَّلًا فِي الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْهَا، كَالدَّيْنِ إِذَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لِزَيْدٍ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ دَيْنٍ آخَرَ فِي الذِّمَّةِ لِعَمْرٍو وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ، يَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِمَالٍ يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الدَّيْنُ مِنْ ثُبُوتِهِ كَالْجِنَايَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقُّ مَالٍ مَحْضٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ثُبُوتِ الْمَالِ بِمُجَرَّدِهِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهِ كَالدَّيْنِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ على مالك وأبي حنيفة أن يقول: لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يُصْرَفُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فجاز، أن يجب على ما اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مَالَهُ، كَالْعُشْرِ فِي الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ، وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَمَّا الْخَبَرُ فَلَا حُجَّةَ فيه، لأن أول دليله يَنْفِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ لَيْسَ بِغَنِيٍّ، وَثَانِي دَلِيلِهِ مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُودِ قِسْمٍ ثَالِثٍ، يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهُوَ بَنُو السَّبِيلِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>