مُسْتَحَقِّ الزَّمَانِ كَشَهْرِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ أَجَزَأَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ زَمَانُهُ كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ الْفَجْرِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى لِجَمِيعِ الشَّهْرِ أَجْزَأَهُ فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى أَهْلَ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ فِي نَهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا فِي لَيْلِهِ مَعَ كَوْنِ عَاشُورَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَرْضًا، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ مِنَ النَّهَارِ قَالَ، وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى نِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ أَصْلُهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَنُوطَةً بِوَقْتِ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ، وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ رُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ عَلَى الْفَجْرِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا جُوِّزَ لَهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى التَّأَخُّرُ عَنِ الْفَجْرِ، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " وَقَدْ رَوَتْ ذَلِكَ أَيْضًا عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَاجِبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ مِنْ شَرْطِهِ مِنَ اللَّيْلِ، كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ مُسْتَحَقٌّ عَرِيَ عَنِ النِّيَّةِ لَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهَا كَمَحَلِّ النِّيَّةِ فِي قَضَائِهَا، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ عَاشُورَاءَ، وَأَهْلِ الْعَوَالِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا بَلْ كَانَ تَطَوُّعًا لِقَوْلِهِ فِيهِ صِيَامُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا، أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيهِ أَنْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا فَدَلَّ تَرْكُهُ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَإِنَّا نَقُولُ: إِنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِهِمْ كَانَ مِنْ حِينَ بَلَغَهُمْ، وَأُنْفِذَ إِلَيْهِمْ وَمِنْ حِينِئِذٍ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ، فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِمَا تَقَدَّمَ كَأَهْلِ قُبَاءٍ لَمَّا اسْتَدَارُوا فِي رُكُوعِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ حِينِ بَلَغَهُمْ سَقَطَ عَنْهُمْ حُكْمُ الِاسْتِقْبَالِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاتِهِمْ قَبْلَ عِلْمِهِمْ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ نُسِخَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا نُسِخَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute