للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَالَى: {سُبْحَانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ) {الإسراء: ١) يَعْنِي: الْحَرَمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي مَنْزِلِ خَدِيجَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ) {الفتح: ٢٥) يعني: الحرم. وقال تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ) {التوبة: ٢٨) وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ عَلَى مَا دَلَّلْنَا إِلَّا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ) {البقرة: ١٤٤) إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَعْبَةَ، وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا دَلَّلْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: الْحَرَمُ، فَحَاضِرُو الْحَرَمِ غَيْرُ مَنْ في الحرم قال الله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ) {الأعراف: ١٦٣) قال أهل التفسير: هي " أبلة " وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْبَحْرِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُقَارِبَةٌ لِلْبَحْرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ الْحَرَمِ، بَطُلَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ قَارَبَ قَوْلَهُ وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى أبي حنيفة، فَيُقَالُ لَهُ: حَاضِرُو الْحَرَمِ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ دُونَ مَنْ كَانَ بَعِيدًا، كَمَا يُقَالُ: كُنْتُ بِحَضْرَةِ فُلَانٍ، أَيْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَهَذِهِ حَضْرَةُ الْمَلِكِ لِلْبَلَدِ الَّذِي مُتَوَلِّيهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ بِمَا لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِهِ بِالْمِيقَاتِ؛ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ فِيهِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ رُخَصَ السَّفَرِ، فَكَانُوا بِالْقُرْبِ أَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْمِيقَاتِ الَّذِينَ قَدْ يَسْتَبِيحُونَ رُخَصَ السَّفَرِ كَالْأَبَاعِدِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ، وَالْأَمْكِنَةِ، وَمَوَاقِيتِ الْبِلَادِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِيقَاتُ الْمَشْرِقِ ذَاتُ عِرْقٍ، وَهِيَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ، وَمِيقَاتُ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَهِيَ عَلَى مَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فَوْقَ ذَاتِ عِرْقٍ بِذِرَاعٍ فَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ مِنْ حَاضِرِيهِ، وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةُ يَوْمٍ، وَمَنْ كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْحَرَمِ وَمِنْ جُمْلَةِ حَاضِرِيهِ، وَبَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْمَعْقُولِ فَاسِدٌ فِي الْعِبْرَةِ.

وَيَدُلُّ عَلَى مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنْ يُقَالَ: كُلٌّ مَنْ لَمْ يَسْتَبِحْ رُخَصَ السَّفَرِ فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْحَرَمِ، وَكَأَهْلِ ذِي طُوًى.

فَأَمَّا أبو حنيفة، فَالْخِلَافُ مَعَهُ يَتَقَرَّرُ فِي مَوْضِعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْ كَانَ فَوْقَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، فَعِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَاضِرِي الحرم، وعندنا أنه مِنْ حَاضِرِيهِ.

وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، أَنَّ مَنِ اسْتَبَاحَ رُخَصَ السَّفَرِ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْحَرَمِ، كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ الْآيَةِ، فَقَدْ مَضَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَيْهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>