وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا جَازَ، وَإِنْ سَاقَ هَدْيًا لَمْ يَجُزِ احْتِجَاجًا مِمَّا رُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ: " لِأَنِّي لبدت رأسي فقلدت الْهَدْيَ، وَلَا أُحِلُّ حَتَّى انْحَرَ " فَأَخْبَرَ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ مَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَانِعٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في حجة الوداع، فأحرمنا بعمرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ، ثُمَّ لَا يُحِلُّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُمَا جَمِيعًا ".
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَأَمَّا الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، فَطَافُوا وَسَعَوْا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَحَلُّوا، فَأُخْبِرْتُ أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَحَلَّ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ سَاقَ هَدْيًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْإِحْلَالِ، وَلِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ أَكْمَلَ أَفْعَالَ عُمْرَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهَا كَمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، ولأن كل من كَانَ وَقْتًا لِلْإِحْلَالِ لِمَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ، كَانَ وَقْتًا لِإِحْلَالِ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، كَالْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ، يُحِلُّ إِذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحِلُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، كَذَلِكَ الْمُتَمَتِّعُ، وَلِأَنَّهُ سُمِّيَ مُتَمَتِّعًا لِتَمَتُّعِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ، لِأَنَّ الِاسْمَ يَزُولُ عَنْهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا، فَلَمْ يَصِحَّ لَنَا وَلَهُمُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لِاعْتِقَادِنَا خِلَافَهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: تَسْلِيمُ الْحَدِيثِ لَهُمْ، وَتَرْكُ مَنْعِهِمْ مِنْهُ، وَتَأَوُّلُهُ عَلَى مَا يَصِحُّ فَيَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا بَالُ النَّاسِ قَدْ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ، أَيْ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ حَجِّهِمْ بِعَمَلِ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ حَجِّكَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَمُوا مَعَهُ ابْتِدَاءً بِعُمْرَةٍ أَحَلُّوا مِنْهَا دُونَهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَدْ أَحْرَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ أَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ إِلَى عُمْرَةٍ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يُقِيمَ عَلَى حَجِّهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ إِحْرَامُهُ وَإِحْرَامُهُمْ مَوْقُوفًا، فَأَمَرَ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ إِلَى عُمْرَةٍ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يصرفه إلى الحج، فلما رأت حفصة أَنَّهُمْ قَدْ أَحَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَهُوَ باقٍ عَلَى إِحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ الْهَدْيَ فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ " فَأَخْبَرَهَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ التَّحَلُّلِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ لأبي حنيفة دَلَالَةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute