وَالتَّقْلِيمِ؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ عُذْرٌ، وَالْعُذْرُ إِنَّمَا يُبِيحُ الْفِعْلَ وَلَا يُسْقِطُ الْفِدْيَةَ، كَالْمَعْذُورِ فِي الطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ، إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ". وَرَوَى عَطَاءُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلاً بالجعرانة، وعليه جبة متضمخ بِالْخَلُوقِ، وَهُوَ تَصْفَرُّ لِحْيَتِهِ وَرَأْسُهُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَحْرَمْتُ بعمرةٍ، وَأَنَا كَمَا تَرَى فَقَالَ: اغْسِلِ الصُّفْرَةَ، وَانْزَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ ". فَلَمَّا أَمَرَهُ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ، وَغَسْلِ الصُّفْرَةِ، وَسَكَتَ عَنِ الْفِدْيَةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهَا، سُكُوتُ إِسْقَاطٍ، لَا سُكُوتَ اكْتِفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ حُكْمَ فِعْلٍ هُوَ بِهِ جَاهِلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الطِّيبِ، وَاللِّبَاسِ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَفَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: اغْسِلِ الصُّفْرَةَ، وَانْزَعِ الجبة.
وقيل: هذا التأويل غير صحيح؛ لأنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِنَزْعِ الْجُبَّةِ وَغَسْلِ الصُّفْرَةِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ، عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْتِيَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَسُؤَالَهُ عَنْ حُكْمِهِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إِسْرَارِ الصحابة به، دليل على تقديم تَحَرُّمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: - وَهُوَ سُؤَالُ الْمُزَنِيِّ -: لَيْسَ سكوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْفِدْيَةِ دَلِيَلًا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، كَمَا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ عَنْ إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ.
قِيلَ: لَوْ تَرَكْنَا سكوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْوَاطِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ كَالْفِدْيَةِ هَا هُنَا، وَلَكِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ إِيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر) {البقرة: ١٨٤) عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِلْوَاطِئِ: " وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ ". وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يُفَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ عَمْدِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَسَهْوِهِ، كَالْأَكْلِ، وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَاطِئِ فِي الْحَجِّ نَاسِيًا قُلْنَا: فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونَ، كَوَطْءِ الْعَاقِلِ فِي لُزُومِ الْمَهْرِ، وَالطِّيبُ اسْتِمْتَاعٌ مَحْضٌ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَلْقِ وَالتَّقْلِيمِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ إِتْلَافٌ. وَحُكْمُ الْإِتْلَافِ أَغْلَظُ مِنْ حكم الاستمتاع، فاستوى حكم، عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ؛ لِغِلَظِ حُكْمِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ عَمْدِ الاستمتاع وسهوه؛ لحقة حكمه.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute