عَنْ تَارِكِ السَّعْيِ، وَذَلِكَ أَوْكَدُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِهَا وَاجِبًا قَالُوا: وَلِأَنَّ السَّعْيَ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَهُ، وَمَا كَانَ تَبَعًا لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا فِي الْحَجِّ، كَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ لَمَّا كَانَ تَبَعًا لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَمْ يكن ركناً في الحج وكالمبيت بِعَرَفَةَ.
قَالُوا وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ يَتَكَرَّرُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمَسْجِدُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ رُكْنًا كَرَمْيِ الْجِمَارِ.
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ جَدَّتِهَا حَبِيبَةَ قَالَتْ دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أبي حسين نَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَأَيْتُهُ يَسْعَى وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَتَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ حَتَى أني لا أرى رُكْبَتَيْهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لِعُمَرَ " وَاللَّهِ مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) {البقرة: ١٥٨) وَعَائِشَةُ لَا تُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ وَتَقْطَعُ بِهِ إِلَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ وَالتَّأْوِيلُ فِيهَا غَيْرُ سَائِغٍ، وَلِأَنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تُحِلُّوا شَعَائِر اللهِ) {المائدة: ٢) وَلِأَنَّهُ مَشَيُ نُسُكٍ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ.
وَمَعْنَى قَوْلِنَا: يَتَنَوَّعُ هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهِ مَاشِيًا وَفِي بَعْضِهِ سَاعِيًا، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا مِنْ شَرَائِطِهَا كَالْإِحْرَامِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ مَتْرُوكٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْجَنَاحِ عَنْ تَرْكِ السَّعْيِ وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْعَ كَانَ حَرَجًا آثِمًا فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ السَّعْيِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ السَّعْيُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوَاجِبُ إِنَّمَا هُوَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَذَاكَ أَنَّ قُرَيْشًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ لَهَا عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ اسْمُهُ أَسَافُ وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ اسْمُهُ نَائِلَةُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اسْمَ الصَّفَا بِإِسَافَ، لِأَنَّ اسْمَهُ مُذَكَّرٌ وَأُنِّثَتِ الْمَرْوَةُ لِأَنَّ اسْمَهَا مُؤَنَّثٌ، فَكَانُوا يَطُوفُونَ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَقَرُّبًا إِلَى الصَّنَمَيْنِ، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الطَّوَافَ بِهِمَا، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، لِزَوَالِ سَبَبِهِ وَإِنَّهُ وَإِنْ شَابَهَ أَفْعَالَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهَا لِأَنَّ هَذَا لِلَّهِ وَذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ جَوَابُ الزُّبَيْرِيِّ هُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) {البقرة: ١٥٨) وَهَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute