للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَأَمَّا الطَّائِرُ فَيَأْتِي، وَأَمَّا الدَّوَابُّ فَفِيهَا مِثْلُهَا مِنَ النَّعَمِ، وَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ أَقْرَبَ الِأَشْيَاءِ مِنَ الْمَقْتُولِ شَبَهًا مِنَ النَّعَمِ فَيَفْتَدِي بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ لِلصَّحَابَةِ فِيهِ حُكْمٌ أَمْ لَا.

فَإِنْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الصَّحَابَةِ فِيهِ بشيءٍ فَلَا اجْتِهَادَ لَنَا فِيهِ، وَحُكْمُ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِنَا، وَقَالَ مالكٌ: لَا بُدَّ فِيهِ من اجتهاد فَقِيهَيْنِ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الله تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَأَمَرَ بِالرُّجُوعِ فِيهِ إِلَى حُكْمِ ذَوَيْ عدلٍ. وَعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ أَوْكَدُ مِنْ عَدَالَتِنَا؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْوَحْيَ وَحَضَرُوا التَّنْزِيلَ وَالتَّأْوِيلَ، وَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْنَا اهْتَدَيْنَا؛ فَكَانَ حُكْمُهُمْ أَوْلَى مِنْ حُكْمِنَا.

وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا حَكَمُوا بشيءٍ أَوْ حَكَمَ بَعْضُهُمْ بِهِ وَسَكَتَ بَاقُوهُمْ عَلَيْهِ صَارَ إِجْمَاعًا وَمَا انْعَقَدَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يُؤَدِّيَ الِاجْتِهَادُ إِلَى غَيْرِ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَكَذَا حُكْمُ التَّابِعِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ كَحُكْمِ الصَّحَابَةِ في وجوب اتباعه، ومنه الِاجْتِهَادِ فِيهِ.

فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ حُكْمٌ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ فَقِيهَيْنِ عَدْلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَرُوِيَ أَنَّ قَبِيصَةَ بْنَ جَابِرٍ أَصَابَ ظَبْيًا وَهُوَ محرمٌ فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَاوَرَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ قَبِيصَةُ لِصَاحِبَيْهِ: وَاللَّهِ مَا عَلِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَى سَأَلَ غَيْرَهُ، وَأَحْسَبُنِي سَأَذْبَحُ نَاقَتِيِ فَسَمِعَ عُمَرُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضرباً بالدرة، وقال: أتقتل الصيد محرماً وتغمض الْفُتْيَا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَهَذَا عُمَرُ وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شاةٍ، مَعْنَى قَوْلِهِ: تَغْمُضُ الْفُتْيَا أَيْ: تَحْتَقِرُهَا وَتَتَهَاوَنُ بِهَا، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ مَطْعُونًا عَلَيْهِ فِي دِينٍ: إِنَّهُ لَمَغْمُوضٌ عَلَيْهِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فَلَمْ يجز إلا بحكم عدل يَجُوزُ حُكْمُهُ، فَإِنْ كَانَ قَاتِلُ الصَّيْدِ فَقِيهًا عَدْلًا جَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي بَدَلٍ مُتْلَفٍ فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُتْلِفِ كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الَّتِي تُرْجَعُ فِي إِتْلَافِهَا إِلَى اجْتِهَادِ مُقَوِّمَيْنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ أَحَدَهُمَا، كَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، وَلِمَا رَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَأَرْبَدَ وَقَدْ قَتَلَ صَيْدًا احْكُمْ، قَالَ: إِنِّي أحكم

<<  <  ج: ص:  >  >>