وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {بِالْبَاطِلِ} فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصْرِفَ فِي الْمَحْظُورَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يُؤْخَذُ بِالِانْتِهَابِ وَالْغَارَاتِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِلِ التِّجَارَاتُ الْفَاسِدَةُ الْمَأْلُوفَةُ عِنْدَهُمْ فِي بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِلا أن تكون تجارة} . فَلَفَظُ إِلَّا مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَأَصْحَابُنَا مَعَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لَمْ يُرَدْ بِهَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا: لَكِنْ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنْ كُلُوهَا تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: ٩٢] مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا عَمْدًا وَلَا خَطَأً، لَكِنْ إِنْ قَتَلَهُ خَطَأً، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى: إِلَّا: فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى: الْوَاوِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، وَكُلُوهَا تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: ٢٢] أَيْ وَاللَّهُ لَفَسَدَتَا.
وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
(وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ)
أَيْ وَالْفَرْقَدَانِ أَيْضًا سَيَفْتَرِقَانِ، وَلَوْ أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ لَقَالَ: إِلَّا الْفَرْقَدَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى إِلَّا، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ مِنْ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مُظْهَرٌ، لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَلَا بِالتِّجَارَةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: ١] وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا مُحْرِمِينَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْكُمُ الصَّيْدُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ - وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا} [مريم: ٦٢] وَلَيْسَ السَّلَامُ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ.