وَلِأَنَّ الْبُيُوعَ أَكْثَرُ مَكَاسِبِ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ أَظْهَرُ فِيهِمْ مِنَ الزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ.
وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعَمُّ، وَالْحَاجَةَ إِلَيْهَا أَكْثَرُ، إِذْ لَيْسَ أَحَدٌ يَسْتَغْنِي عَنِ ابْتِيَاعِ مَأْكُولٍ أَوْ مَلْبُوسٍ، وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ صِنَاعَةٍ وَزِرَاعَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى سَلْمَانُ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَكُنْ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِنَّ فِيهَا بَاضَ الشَّيْطَانُ وَفَرَّخَ " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ مَكْرُوهًا، لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ مَنْهِيًّا.
قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُكْرَهَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِإِحْلَالِهِ فِي كِتَابِهِ؟ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَصْرِفَ أَكْثَرَ زَمَانِهِ إِلَى الِاكْتِسَابِ، وَيَشْتَغِلَ بِهِ عَنِ الْعِبَادَةِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَيْهِ مُنْقَطِعًا، وَبِهِ مُتَشَاغِلًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنِ السوْم قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ " يُرِيدُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ، حَتَّى يَبْتَدِئَ بِهِ فِي صَدْرِ يَوْمِهِ، لَا أَنَّهُ حَرَامٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَا تُجَّارُ كُلُّكُمْ فُجَّارٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَ الْحَقَّ وَأَعْطَى الْحَقَّ " فَجَعَلَ الْفُجُورَ فِيهِمْ عُمُومًا، وَمُعَاطَاةَ الْحَقِّ خُصُوصًا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصفات أَجَلِّ الْمَكَاسِبِ.
قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مِنَ الْبُيُوعِ مَا يَحِلُّ، وَمِنْهَا مَا يَحْرُمُ، وَمِنْهَا مَا يُسْتَحَبُّ وَمِنْهَا مَا يُكْرَهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مَا اتَّجَرُوا إِلَا فِي البُر، وَلَوِ اتَّجَرَ أَهْلُ النَّارِ مَا اتَّجَرُوا إِلَّا فِي الصَّرْفِ " قَالَ ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا لِتِجَارَةِ البُر، وَكَرَاهَةً لِتِجَارَةِ الصَّرْفِ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَانَ يَبِيعُ الطَّعَامَ وَلَيْسَ لَهُ تِجَارَةٌ غَيْرُهُ، حَاطَ، أَوْ بَاعَ، أَوْ طَاغَ، أَوْ زَاغَ "، يُرِيدُ بِذَلِكَ كَرَاهَةَ التَّفَرُّدِ بِالتِّجَارَةِ فِي هذا الجنس.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute