للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَذْهَبَانِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ مَشَى قَلِيلًا ثُمَّ رَجَعَ، وَأَبُو بَرْزَةَ قَالَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ حِينَ بَاتَا لَيْلَةً ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ قَالَ: مَا أَرَاكُمَا تَفَرَّقْتُمَا عَنْ رِضًا مِنْكُمَا بِبَيْعٍ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ دُونَ الْمَعْنَى الْآخَرِ. وَهَذِهِ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءٍ أَحَدِكُمْ فَأَرِيقُوهُ، وَاغْسِلُوهُ سَبْعًا " ثُمَّ أَفْتَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالثَّلَاثِ، فَلَمْ تَصِيرُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَاسْتَعْمَلْتُمُ الْخَبَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ.

قِيلَ: نَحْنُ لَا نَقْبَلُ قَوْلَ الرَّاوِي فِي التَّخْصِيصِ، وَلَا فِي النَّسْخِ، وَلَا فِي الْإِسْقَاطِ، وَإِنَّمَا نَقْبَلُهُ فِي تَفْسِيرِ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا.

وَقَوْلُهُ: " اغْسِلُوهُ سَبْعًا " يَقْتَضِي وُجُوبَ الْغَسْلِ سَبْعًا، وَفَتْوَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِالثَّلَاثِ إِسْقَاطٌ لِبَاقِي السَّبْعِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، وَكَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ.

فَلَمْ نَقْضِ بِمَذْهَبِهِ عَلَى رِوَايَتِهِ، لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا، وَقَوْلُ الرَّاوِي لَا يُقْبَلُ فِي التَّخْصِيصِ.

عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَحْمِلُهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا، فَأَحْمِلُهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ، وَعَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ، فَأَجْعَلُ لَهُمَا فِي الْحَالَيْنِ الْخِيَارَ بِالْخَبَرِ، وَهَذَا صَحِيحٌ لَوْلَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُهُمَا.

فَأَمَّا الِانْفِصَالُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَعْهُودَ الِافْتِرَاقِ إِنَّمَا هُوَ بِالْكَلَامِ دُونَ الْأَبْدَانِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ مُسْتَحْدَثٌ يَدْفَعُهُ إِجْمَاعُ مَنْ سَلَفَ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السّلف حَمَلَهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ، حَتَّى أَنَّ مَالِكًا رَوَى الْخَبَرَ، فَقِيلَ لَهُ: فَلِمَ خَالَفْتَهُ؟ قَالَ: وَجَدْتُ عَمَلَ بَلَدِنَا بِخِلَافِهِ، وَرُوِيَ لأبي حنيفة فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ فَحَصَلَ التَّسْلِيمُ مِنْهُمَا، إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، وَلَمْ يَتَنَازَعَا فِي تَأْوِيلِهِ، وإنَّمَا ذَكَرَا شُبْهَةً وَاهِيَةً فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ يَجْتَمِعُ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التفرق بالأبدان لكان هو حَقِيقَةَ التَّفَرُّقِ فِي اللِّسَانِ، وَالشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ رُبَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا، وَقَدْ حَكَى الرِّيَاشِيُّ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَشَاهِدُ ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>