قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا أَنْ يَبْقَى أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْجُمْلَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لُغَةٌ يُوجَدُ سَمَاعًا، وَلَمْ يَرِدِ اسْتِثْنَاءُ أَكْثَرِ الْجُمْلَةِ كَمَا لَمْ يَرِدِ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ الْجُمْلَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَبَعٌ لِبَاقِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهَا لِأَنَّ الْأَكْثَرَ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَقَلِّ:
وَهَذَا خَطَأٌ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بَمَا أَغْوَيْتَنِي لأَزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ إلاَّ عِبَادَكَ منهم المُخْلَصِينَ، قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيم أنَّ عِبَادِيَّ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ) {الحجر: ٣٩، ٤٢) .
فَاسْتَثْنَى الْغَاوِينَ مِنَ الْمُخَلَصِينَ تَارَةً وَالْمُخْلَصِينَ مِنَ الْغَاوِينَ أُخْرَى، وَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْأُخْرَى فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ، وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ وَظَاهِرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(رُدوا التي نقصت تسعين عن مئةٍ ... ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّالَا)
وَلِأَنَّ الْخَارِجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا مُرَادٌ بِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَإِذَا كَانَ كذلك قال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا تِسْعُمِائَةٍ صَحَّ، وَكَانَ المراد باللفظ مئة، وجرى مجرى قوله: له عليّ مئة.
فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَأَلْفٌ وَأَلْفٌ إلا ألفاً، فهي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَلْفًا مِنَ الْأَلْفِ فَبَطَلَ وَلَزِمَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صَحِيحٌ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَإِنْ كَانَ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فَصَحَّ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهَا أَلْفًا وَيَبْقَى عَلَيْهِ أَلْفَانِ، وَهَكَذَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَثْنِيَ أَلْفَيْنِ لِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى كُلِّ الْجُمْلَةِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ أَلْفٌ.
وَمِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً فَيَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ الوجهين: