وَقَالَ أبو حنيفة لَا تُعَجَّلُ الْأُجْرَةُ بَلْ تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَكُلَّمَا مَضَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ جُزْءٌ مَلَكَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ لَكِنَّ لَمَّا شَقَّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ عَلَى يَسِيرِ الْأَجْزَاءِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إِلَّا بِمُضِيِّ جَمِيعِ الْمُدَّةِ.
وَاسْتَدَلَّا عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَتَعَجَّلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق: ٦) فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِاسْتِكْمَالِ الرِّضَاعِ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ. وَبِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ " فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حَثًّا عَلَى تَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ اسْتِحْقَاقِهَا وَذَلِكَ بَعْدَ الْعَمَلِ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ.
وَلِأَنَّ أُصُولَ الْعُقُودِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى تَسَاوِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا يَمْلِكَانِهِ بِالْعَقْدِ وَيَكُونُ مِلْكُ الْعِوَضِ تَالِيًا لِمِلْكِ الْمُعَوَّضِ كَالْبَيْعِ إِذَا مَلَكَ عَلَى الْبَائِعِ الْمَبِيعَ مَلَكَ بِهِ الثَّمَنَ وإذا سلم المبيع استحق قَبْضِ الثَّمَنِ فَلَمَّا كَانَ قَبْضُ الْمَنَافِعِ مُؤَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبْضُ الْأُجْرَةِ مُؤَجَّلًا وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ بَعْدَ إِقْبَاضِ الْمُعَوَّضِ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ مِنَ الْأَعْوَاضِ عَلَى الْمَنَافِعِ يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَنَافِعِ كَالْجَعَالَةِ وَالْقِرَاضِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُؤَجِّرِ لِلْأُجْرَةِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّارَ الْمُؤَاجَرَةَ لَوِ انْهَدَمَتْ قَبِلَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ اسْتَرْجَعَ مِنَ الْمُؤَجِّرِ مَا قَبَضَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْأُجْرَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمَنَافِعِ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ فِيهِ حَالًّا كَالنِّكَاحِ وَلِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ تُعَجِّلُ بِالشَّرْطِ فَإِطْلَاقُهُ يُوجِبُ حُلُولَهُ كَالثَّمَنِ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ تَسْلِيمَ الْمُعَوَّضِ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْعِوَضِ لِيَسْتَوِيَ حُكْمُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا يَمْلِكَانِهِ مِنْ عِوَضٍ وَمُعَوَّضٍ فَلَا يَكُونُ حَظُّ أَحَدِهِمَا فِيهِ أَقْوَى مِنْ حَظِّ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ إِذَا سَلِمَ الْمَبِيعُ فِيهِ وَجَبَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ. وَكَالنِّكَاحِ إِذَا حَصَلَ التَّمْكِينُ وَجَبَ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ كَذَلِكَ الْإِجَارَةُ إِذَا حَصَلَ تَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ والمنافع ههنا بِالتَّمْكِينِ مَقْبُوضَةٌ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَبْضُ مُسْتَقِرًّا لِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ:
أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً وَبِالتَّمْكِينِ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ لَمَا جَازَ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ تَأْجِيلِهَا دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ قَبْضِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُوضَةً لَمَا جَازَ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّارِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ بَاطِلٌ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ قَبْضِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا يَلْزَمُهَا التَّمْكِينُ مِنْ نَفْسِهَا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ صَدَاقِهَا وَلَوْ كَانَ صَدَاقُهَا سُكْنَى دَارٍ تَسَلَّمَتْهَا لَزِمَهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا فَلَوْلَا حُصُولُ قَبْضِهَا لِصَدَاقِهَا مَا أُلْزِمَتْ تَسْلِيمَ نَفْسِهَا.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأُجْرَةَ لَوْ لَمْ تُمَلَّكْ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ السُّكْنَى لَمَا جَازَتِ الْمُضَارَبَةُ عليها وأن يأخذ من الذَّهَبِ وَرِقًا وَعَنِ الْوَرِقِ ذَهَبًا كَمَا لَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الدُّيُونِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute