وَقَالَ أبو حنيفة وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: الْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عُقُودَ الْمَنَافِعِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ كَالنِّكَاحِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى مُؤَجِّرٍ وَمُؤَاجِرٍ فَلَمَّا بَطَلَتْ بِتَلَفِ الْمُؤَاجِرِ بَطَلَتْ بِتَلَفِ الْمُؤَجِّرِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمُؤَاجِرِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِتَلَفِ الْمُؤَجِّرِ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ وَلِأَنَّ زَوَالَ مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ عَنْ رَقَبَةِ الْمُؤَاجَرَةِ يُوجِبُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا بَاعَ مَا أَجَّرَهُ بِرِضَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إِمَّا تُسْتَوْفَى بِالْعَقْدِ وَالْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمُؤَجِّرِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ عَاقِدًا وَالْوَارِثُ لَا عَقْدَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَارَ مَالِكًا فَصَارَتْ مُنْتَقِلَةً عَنِ الْعَاقِدِ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِعَاقِدٍ فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ لَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ يَنْتَقِضُ بِمَوْتِ مَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ. لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بِمَوْتِ الْعَاقِدِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ حَيًّا فَمَرِضَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ حَيًّا، لِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ يُعَاوِضُ عَلَى بِضْعِ أَمَتِهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ كَمَا يُعَاوِضُ عَلَى خِدْمَتِهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ عَلَى بِضْعِهَا لَمْ يَبْطُلْ بِالْعَقْدِ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا.
وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ عَلَى مَنَافِعِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ كَالنِّكَاحِ عَلَى أَمَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَدُ مَنْفَعَتَيِ الْأَمَةِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ السَّيِّدِ كَالْمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ تَنْتَقِلُ بِالْمُعَاوَضَةِ كَالْأَعْيَانِ فَجَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ بِالْإِرْثِ كَالْأَعْيَانِ وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعِوَضٍ صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ إِرْثًا كَالْأَعْيَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْأَعْيَانُ فِي الْبِيَاعَاتِ صَحَّ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْمَنَافِعُ فِي الْإِجَارَاتِ أَصْلُهُ عَقْدُ الْحَيِّ الْمُخْتَارِ.
وَلِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَعْجَزُ عَنْ إِقْبَاضِ مَا اسْتُحِقَّ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْعَقْدُ كَالْجُنُونِ وَالزَّمَانَةِ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهَا قَدْ تُسْتَحَقُّ بِالرَّهْنِ تَارَةً وَبِالْإِجَارَةِ أُخْرَى فَلَمَّا كَانَ مَا تُسْتَحَقُّ مَنْفَعَةُ ارْتِهَانِهِ إِذَا انْتَقَلَ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ رَهْنِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اسْتُحِقَّتْ مَنْفَعَتُهُ بِالْإِجَارَةِ إِذَا انْتَقَلَ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ إِجَارَتِهِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي الْأُمِّ وَلِأَنَّ الْوَارِثَ إِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمَوْرُوثُ وَالْمَوْرُوثُ إِنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ الْوَارِثُ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ إِجَارَةَ الْوَقْفِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ مُؤَجِّرِهِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ بِمَوْتِ مُؤَجِّرِهِ كَالْوَقْفِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْمُضَارَبَةِ مَعَ انْتِقَاضِهِ بِالْوَقْفِ فَهُوَ أَنَّهُ إِنْ رَدَّهُ إِلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute