الْغَيْرِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَنْ يُسْتَظَلَّ بِحَائِطِهِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِمُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَذَلِكَ صَحَّ الْبَيْعُ، إِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ وَإِنْ أَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَخَطَّى فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ تَخَطَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَاسْتَقَى مِنْ ذَلِكَ الْمَاءَ مَلَكَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ كَمَا إِذَا تَوَغَّلَ فِي أَرْضِهِ صَيْدٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، لِأَنَّهُ يحتاج أن يتخطى ملك غير بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ خَالَفَ وتخطى فأخذوا مَلَكَهُ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ خَالَفَ قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَقِيَهُ وَيَحُوزَهُ فَيَمْلِكَهُ بِالْحِيَازَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ جَازَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْبِئْرِ إِذَا شَاهَدَ الْمُشْتَرِي كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَ مَا فِي الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِذَا كَانَ بِبَيْعٍ ويريد كلما استقى منه شيء فَلَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنَ الْآبَارِ وَهُوَ إِذَا نَزَلَ قومٌ مَوْضِعًا مِنَ الْمَوَاتِ فَحَفَرُوا فِيهِ بِئْرًا لِيَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا وَيَسْقُوا مِنْهُ مَوَاشِيَهُمْ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ وَلَمْ يَقْصِدُوا التَّمَلُّكَ بِالْإِحْيَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، لِأَنَّ الْمُحْيِيَ إِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ مُدَّةَ مَا قَصَدَ بِهِ بِمِلْكِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فَإِذَا رَحَلَ فَكُلُّ مَنْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا إِنَّهُ يَمْلِكُ الْبِئْرَ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِمَائِهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ فَإِذَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ مِنَ السَّائِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاءِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ غَيْرُهُ مِنْ رَعْيِ الْكَلَأِ وَالَّذِي يَقْرُبُ ذَلِكَ الْمَاءَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِشُرْبِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ فَأَمَّا لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِعِوَضٍ لِشُرْبِ الْمَاشِيَةِ وَسَقْيِ الزَّرْعِ فَأَمَّا بِلَا عِوَضٍ فَلَا، وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَقَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَلَأً مَمْلُوكًا وَبِجَنْبِهِ بِئْرٌ وَلَا يُمْكِنُ سَقْيُ الْمَوَاشِي مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ إِلَّا بِالرَّعْيِ فِي ذَلِكَ الكلأ لم يلزمه بذل الفاضل من كلائه، فَإِنْ كَانَ مَنْعُهُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَاءُ لَهُ، وَكَانَ الْكَلَأُ مُبَاحًا لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْكَلَأِ الْمُبَاحِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَكَذَلِكَ لِمَوَاشِيهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ أَدِلَّةٌ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَوَعَّدَ عَلَى الْمَنْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَذْلَ وَاجِبٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاضِلَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ بَذْلُهُ فَأَمَّا مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَاشِيَةُ وَنَفْسُهُ وَزَرْعُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ وَهُوَ أَحَقُّ من غيره.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute