" إذا أوصى الرجل بِمِائَةِ دِينَارٍ لَهُ حَاضِرَةٍ، وَتَرَكَ غَيْرَهَا أَلْفَ دِينَارٍ دَيْنًا غَائِبَةً: فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الوصية بالمائة كلها عاجلا سواء أمضى الدَّيْنُ وَسَلِمَ الْغَائِبَ أَمْ لَا، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وَثُلُثَ الدَّيْنِ مِنَ الْمَالِ الْغَائِبِ، وَيَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ شَرِيكًا بِالثُّلُثِ فِي كُلِّ التَّرِكَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَسُمِّيَ ذلك خلع الثلث، واستدلالا بأن للموصى له ثلث ماله، فإذا غير الْوَصِيَّةَ فِي بَعْضِهِ. فَقَدْ أَدْخَلَ الضَّرَرَ عَلَيْهِمْ بِتَعْيِينِهِ فَصَارَ لَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْتِزَامِ الضَّرَرِ بِالتَّعْيِينِ، وَبَيْنَ الْعُدُولِ إِلَى مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الموصي فهذا دليل مالك وما عليه فِي هَذَا الْقَوْلِ.
وَاسْتَدَلَّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُوصِي لِلْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ مِنْ جُمْلَةِ التركة الغائبة، بمنزلة القبول للجاني إذا تعلقت الجناية في رقبته فسيده بالخيار بين أن يفديه بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ.
فَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، ودليلاه.
ومذهب الشافعي: أن الموصى لَهُ ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وَثُلُثَاهَا الْبَاقِي مَوْقُوفٌ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ وَوُصُولِ الْغَائِبِ، لَا يَتَصَرَّفُ فيه الوارث، ولا الموصى له، وإذا قبض الدين ووصل مِنَ الْغَائِبِ مَا يُخْرِجُ الْمِائَةَ كُلَّهَا مِنْ ثُلُثِهِ، أُمْضِيَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ.
وَإِنْ وَصَلَ ما يخرج بَعْضَهَا: أُمْضِيَ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا. فإن برئ الدين وقدم الْغَائِبُ: اسْتَقَرَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وتصرف الورثة في ثلثينها، لِأَنَّهَا صَارَتْ جَمِيعَ التَّرِكَةِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا انتظر بِالْوَصِيَّةِ قَبْضُ الدَّيْنِ، وَوُصُولُ الْغَائِبِ، هَلْ يُمَكَّنُ الموصى له من التصرف في ثُلُثِ الْمِائَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُمَكَّنُ مِنَ التصرف فيها لأنه ثلث محض.
والوجه الثاني: يمنع من التصرف فيها لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا لَا يَتَصَرَّفُ الْوَرَثَةُ فِي مِثْلَيْهِ، وَقَدْ منع الورثة من التصرف في ثلث الْمِائَةِ الْمَوْقُوفِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُوصَى لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثِ الْمُمْضَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فساد ما ذهب إليه مالك:
أنه يأول إلى أحد أمرين بمنع الوصية منها لأنه إِذَا خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْوَصِيَّةِ فِي ثلث كل التركة أو إمضاء الوصية في كل الْمِائَةِ.
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ خَارِجٌ عَنْ حكم الوصية، لأنهم إذا اخْتَارُوا مَنْعَهُ مِنْ كُلِّ الْمِائَةِ، فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ ثُلُثُ كُلِّ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوصًى لَهُ.