وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ رُجُوعَ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَرُجُوعَ الْبَائِعِ عَلَى الْمُفْلِسِ بِعَيْنِ مَالِهِ، حَقٌّ لَهُمَا، لَيْسَ لِلِابْنِ وَلَا لِلْمُفْلِسِ إِبْطَالُ ذلك عليهما، فكذلك لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُمَا وَعَوْدُهُ إِلَى مِلْكِهِمَا مَانِعًا مِنَ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّ لِلْمُوصِي إِبْطَالهَا فَإِذَا بَطَلَتْ بِالْبَيْعِ لَمْ تَعُدْ بِالشِّرَاءِ.
وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمُوصِيَ عَرَضَ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ تَعْرِيضَهُ لِلْبَيْعِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِهِ لِلرُّجُوعِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ.
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ بِيعُوهُ بَعْدَ مَوْتِي، وَلَمْ يَذْكُرْ بِكمْ يُبَاعُ وَلَا عَلَى مَنْ يُبَاعُ فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ بَاطِلَةٌ، وَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا بَاعُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا تَمَسَّكُوا بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَنْ تصح وله الْوَصِيَّةُ فِيهِ لَكِنْ يُسْتَفَادُ بِذَلِكَ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ وأن تكون مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ بِثَمَنٍ ذَكَرَهُ يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مُحَابَاةً، فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ جَائِزَةٌ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشافعي أن يَكُون رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: إِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْوَصِيَّتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو.
قَالَ: وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمُحَابَاةِ فِي الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاة بِنِصْفِ ثَمَنِهِ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ أَوْصَى بِجَمِيعِهِ لِزَيْدٍ، ثم أوصى بنصفه لعمرو، فيكون بنيهما أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ وَلَا يَذْكُرُ قَدْرَ ثَمَنِهِ الَّذِي يُبَاعُ عَلَيْهِ بِهِ، فَهُوَ بِذَلِكَ مُبْطِلٌ لِوَصِيَّتِهِ الأولى، وفي صحة وصية بيعه عَلَى زَيْدٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ثَمَنٍ تَكُونُ الْمُحَابَاةُ فِيهِ وَصِيَّةً، وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْوَرَثَةِ فِي بَيْعِهِ وَإِمْسَاكِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ قَصْدَ تَمليكِهِ إِيَّاهُ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ إِنِ اشتراه.
وأما المسألة الثانية: فهو تَدْبِيرُ مَا أَوْصَى بِهِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، كَانَ تَدْبِيرُهُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ فَإِنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالتَّمْلِيكِ، كَانَ التَّدْبِيرُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَالتَّمْلِيكِ سَوَاءٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ نِصْفُهُ وَصِيَّةً وَنِصْفُهُ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بالثان بَعْدَ أَوَّلٍ، كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.